الأشياء و تشكلاتها فى الرواية العربية ا
بقلم : د. مصطفى الضبع
مدرس النقد الحديث –جامعة القاهرة
مقـــــــدمة
فىلغتنا العربية لا نكاد نجد لفظا يمكنه – تعبيريا- أن يحل محل الألفاظمعظمها، وأن يقوم بدورها قدر ما يفعله لفظ الشيء مفردا أو جمعا ، وربماكان لفظ ( الأشياء) أكثر قدرة على التعبير عن الأشياء المتآلفة أو غيرالمتآلفة ، ومن السهل أن نستخدم المفردتين للتعبير عن عناصر معروفةللمتلقى أو غير واضحة تماما أو يكتنفها جانب من الغموض ، عندها نقول هى(أشياء).
وهذه الأشياء لا تكتفى بوجودها الواقعى الذى قد لا يعيرهاالبعض فيه أدنى فاعلية فتأخذ فى تحقيق هذه الفاعلية عبر النص الإبداعى حيثكل الأشياء لابد أن تكون دالة وفاعلة.
والسؤال المركب الذى يطرح نفسه :
مامدى هذه الفاعلية ؟ وإلى أى حد يكون للأشياء هذه الأهمية فى سياق النص ؟. وهل يمكن دخول النص عبر مفاتيحه الشيئية ؟.
مع محاولة هذه الدراسة أنتجيب عن هذه الأسئلة ، فإنها تعترف – بداية- بأن النص الروائى العربى قدشكل جغرافيته من أشياء بنى عليها معناه ودلالاته للدرجة التى لا تستطيعهذه الدراسة أن تدعى لنفسها القدرة على الإحاطة بها أو التوصل لكلتقنياتها .
إنها دراسة حاولت أن تنصت لصوت الأشياء فى الرواية العربية ، مستنطقة إياها ، ناظرة إليها بوصفها تقنية وليست موضوعا نصيا .
وقد جاءت الدراسة فى :
مقدمة : تعرض لموضوعها .
مهاد نظرى : يؤسس لفكرتها.
المبحث الأول : الدال والمدلول :ويتوقف فى المنطقة المتنازع عليها وفيها ،منطقة التخييل وعلاقة النصين: الشعرى والنثرى ، وتقنيات ظهور الأشياء فىالنص السردى ، ومنطق الروائى ، والقارئ الأول ، وكيف يحكمان ظهور الأشياءفى النص السردى .
المبحث الثانى : الأشياء ومستويات الرؤية : ويجيب عن السؤال: من يرى؟ وكيف تؤثر زاوية الرؤية فى تلقى أشياء النص ؟.
المبحث الثالث : المستويات الوظيفية للأشياء :ويقارب المستويات الوظيفيةالثلاثة التى تتدرج خلالها أدوار الأشياء ووظائفها :
- الحقيقى .
- المجازى .
- السحرى .
المبحث الرابع : أشياء النص ، نص الأشياء ، ويقارب الأشياء فى النص السردىالقديم مقارنة بالأشياء فى النص الحديث ، وكيف تحول الأمر من حالة الأشياءالخاصة بالنص إلى النص الخاص بالأشياء .
مهاد نظرى
منذخطواته الأولى فى الحياة ، الإنسان فى علاقة دائمة بالأشياء ، للحد الذىيمكن التعبير عنه بالقول :إن الحياة الإنسانية ما هى إلا حركة الإنسانالمرتبطة بهذه الأشياء ، فى تعبيرها عن حالاته المختلفة ، والمغايرةللحظات حياته ، وفى قدرتها على أن تكون عناصر تملأ فراغ يومه، وتشكلجغرافية حياته ، يحملها وتحمله ، يشكل بها عالميه: الخاص والعام ،يتبادلهامع الآخرين فتكون علامة رابطة بينه وبينهم ، تعبر عن ثقافته وبيئته ،وبالجملة تبدأ حياته و تنتهى دون أن تنتهى هذه العلاقة ؛ فموته ليس معناهموتها ، إنه يتركها دليلا على وجوده الذى كان ، علامة دالة عليه تحملذكراه لمن فارقهم .
إن حياة الإنسان حضور حقيقى وممتد للأشياء فىعلاقتها به ، خالقة نظاما جديدا للمكان المشترك بينهما ، و عندها " يصبحالمكان شيئا أكثر من مجرد فراغ يهيم فيه الإنسان على وجهه وتتناثر فيه هناوهناك أشياء تهدده ،وأخرى تشبع شهوته . أجل فإن المكان ليصبح بمثابة مشهدكلى شامل ، أو منظر مسيج محدد المعالم تنتظم فى داخله جمهرة من مظاهرالنشاط الفاعل والقابل التى يستغرق فيها الإنسان " ( ).
يتعاملالإنسان مع الأشياء( لغة ) بوصفها مسلمات تعورف عليها ، و لا تحتاج قوتهاالدلالية إلى تحديد أو توضيح ، و لسان العرب يكتفى بالقول:
"و الشىء ، معلوم قال سيبويه حين أراد أن يجعل المذكر أصلا للمؤنث ألا ترى أن الشيء مذكر وهو يقع على كل ما أخبر عنه" ( ) .
ويقترب الجرجانى من صيغة أكثر دلالة للفظ ، يملأ ما تركه لسان العرب من فراغ :
"الشيءفي اللغة هو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه عند سيبويه وقيل الشيء عبارة عنالوجود وهو اسم لجميع المكونات عرضا كان أو جوهرا ويصح أن يعلم ويخبر عنهوفي الاصطلاح هو الموجود الثابت المتحقق في الخارج " ( ) .
و يكتسب اللفظ عموميته من زاويتين :
الأولى: استعماله للتعبير عن المادى والمعنوى: والقرآن الكريم حين يستخدمه فىصيغة الجمع يؤكد هذا الاستعمال، فى المواضع الأربعة التى ورد فيها ، قالتعالى :
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَتَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنتَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَااللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ " ( ) .
وقال "وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَمَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّنرَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْالنَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَإِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ "( ).
وقال" وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِوَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِمُفْسِدِينَ " ( ).
"وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ"( ).
وقدجاءت أطروحات المفسرين كاشفة، عن هذا المعنى ، قال ابن كثير : وقوله "ولاتبخسوا الناس أشياءهم" أي لا تنقصوهم أموالهم. و ورد فى الجلالين : (ولاتبخسوا الناس أشياءهم) لا تنقصوهم من حقهم شيئا .
ولم يبتعد استخدام الحديث الشريف للفظ عن هذا الإطار نفسه :
"حَدَّثَنَاعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا كَهْمَسٌ عَنْ سَيَّارٍ رَجُلٍ مِنْفَزَارَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ بُهَيْسَةَ عَنْ أَبِيهَا عَنِ النَّبِيِّصَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّىاللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فَدَخَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَقَمِيصِهِ وَقَدْ قَالَ عُثْمَانُ فَالْتَزَمَهُ فَقَالَ مَا الشَّيْءُالَّذِي لا يَحِلُّ مَنْعُهُ فَقَالَ الْمِلْحُ وَالْمَاءُ قَالَ مَاالشَّيْءُ الَّذِي لا يَحِلُّ مَنْعُهُ قَالَ إِنْ تَفْعَلِ الْخَيْرَخَيْرٌ لَكَ قَالَ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لا يَحِلُّ مَنْعُهُ قَالَ إِنْتَفْعَلِ الْخَيْرَ خَيْرٌ لَكَ وَانْتَهَى إِلَى الْمِلْحِ وَالْمَاءِقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ تَقُولُ بِهِ فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ "( )
الثانية: أن عموميته ليست أمرا يتوقف عند الاستعمال اللغوى ، المتداول ، وإنمايتعداه للاستعمال المعرفى العام ؛ فاللفظ مستعمل فى كل العلوم ، داخل فىكل المعارف ، يستخدمه اللغوى، والمؤرخ ، والفيزيائى، والأديب، والفلكى،والفيلسوف وغيرهم ، ورد فى كشف الظنون:
" فاللازم من كون الشيء غايةلنفسه أن يكون وجوده الذهني علة لوجوده الخارجي ولا محذور فيه وأما غايةالعلوم الآلية فهو حصول العمل سواء كان ذلك العمل مقصودا بالذات أو لأمرآخر يكون غاية أخيرة لتلك العلوم" ( ).
وجاء فى الحدود الأنيقة :
"الإقرار لغة : الإثبات من قر الشيء أي ثبت"( ) .
مما يؤكد انتفاء التحديد الصارم أو شبه الصارم للفظ ،مما يفسح المجال لإثارة الأسئلة حول المفهوم نفسه :
" ما هو ذلك الشىء الذى اختزلنا فى سبيله المكان إلى أقصى مداه ، ومع ذلك لا نصل إليه ولا يصل إلينا ؟( )
لقد بات اللفظ - لكثرة التداول – يكاد يستعصى على التحديد مما جعل الدكتور عبد الغفار مكاوى يتساءل :
" وما هو الشىء ؟ سؤال بسيط يوشك ألا يسأله غير البلهاء ؟ ولكن لعل الإنسان فى تاريخه الطويل قد أهمل فى السؤال عن حقيقة الشىء" ( ).
وفىالآن نفسه يطرح الدكتور عبد الغفار مكاوى تعددا شيئيا يعد صياغة جديدة للسؤال عن الشيئ :
" الحجر على الطريق شىء ، وكومة التراب فى الحقل . الجرة شىء والنبع فىالصحراء . ولكن ما حال اللبن فى الجرة والماء فى النبع ؟ هذان أيضا شيئان، كما أن السحب فى السماء أشياء ، وأوراق الخريف فى مهب الريح ، وشجرةالصبار على الدرب المهجور ، بل لعل من حقها أن تكون أشياء " ( )
ويكادهذا المفهوم يتناسب مع واقع يطلق اللفظ على الكثير من الموجودات: المادىمنها والمعنوى مما يجعل منه علامة قادرة على حمل الكثير من المعانىوالدلالات التى تخدم الكثير من العلوم والمعارف، إذ يشير إلى غيره أكثر منإشارته لنفسه أو لمعنى داخله يعمل العلم الحديث على الإشارة إليه، ففىالوقت الذى كان الشيء فيه قابلا لأن يحل – على المستوى اللغوى – محلالكثير من الألفاظ نجحت الفلسفة – إلى حد كبير - فى تحديد مفهوم الشىءناقلة إياه من واقع عام إلى حيز خاص :
" فالأشياء فى ذاتها والأشياء التى تظهر للعيان ، وكل ما هو موجود على الإطلاق ،يعرف فى لغة الفلسفة بالشىء " ( )
والدكتور عبد الغفار مكاوى لايقنع – علميا – بذلك ، فالأمر من وجهة نظرهيتطلب كثيرا من التحديد إذ ليس من الممكن أن نسمى الله شيئا أو أن ندعوالفلاح والعامل والمعلم والغزال والقطة و الجراد أشياء لذا يعمد إلى مفهومأكثر تحديدا يتناسب مع قوانين العلم والمنطق :
" والأقرب للمعقول أننسمى كل ما تجرد عن الحياة – سواء فى الطبيعة أو فى محيط الاستعمال – باسمالشىء ، كأن يكون كتلة من الصخر ، أو قطعة من الخشب ، أو كومة من التراب .وهكذا نكون قد خرجنا من المملكة الواسعة التى سمينا فيها كل موجود باسمالشىء " ( ).
المبحث الأول
التفاهم فى منطقة متنازع عليها / فيها .
تعلىالنظريات النقدية الحديثة دور المتلقى الذى يمتلك من القدرات ما يجعلهيحسن التفاهم مع المبدع عبر منطقة تفاهم تنوزع - وما يزال – عليها، ونعنىالنص أو المساحة التى تنازعت النظريات على أيهما يسودها : المبدع الذىرفعت النظريات القديمة من راياته على النص بوصفه صاحب الحق الأول فىالمملكة( النصية )، أم المتلقى الذى تجعله نظرية التلقى الأب الروحى للنص،و منطقة التنازع وإن حملت نتاجا معنويا / تخييليا، فإنها تمثل وسيطا يعدبدوره الأداة / المساحة التى يبث فيها المبدع مجموعة الإشارات، والأدلة،والموجهات التى يستثمرها المتلقى فى ممارسة دوره المنتظر ، وهى مساحةورقية ( فضاء نصى ) تعد مسرح اللقاء الذى يدخله المبدع والمتلقى متتابعين، يجتمعا ن فى المكان ولا يجمعهما الزمان، يتأثر كل منهما فيه بالآخر وإنظهر تأثير أحدهما متفوقا، والمبدع مسئول - بقوة تخيله - عن تشكيل هذاالفضاء مستثمرا قوة العلامات المشكلة خيال المتلقى عندها نحن أمام قوةخيالين أو قوتين من الخيال إحداهما باث مؤثر، والأخرى مستقبل متأثر ( ).
وعمليةالتخييل بوصفها رابطا بين الاثنين تعتمد على مجموعة من العلاقات اللغويةالتى يكون التخييل رابطا فيها بين الكلمات والأشياء بوصفهما عنصريه .
وفى هذا الجانب اعتمد الرومانسيون قوة الخيال بوصفها عنصراً للإدراك ووسيلة لتغيير البشر والحياة للأفضل :
"عرف الرومانسيون أن وظيفتهم هى الخلق ، وأن يغيروا عن طريق هذا الخلق نفسالإنسان الواعية المدركة جميعها ، حتى يوقظوا خياله على الحقيقة التى تقعوراء المألوف من الأشياء ، حتى يرفعوه من رتابة العادة المميتة إلى الوعىبالأبعاد التى لا تقاس والأعماق التى لا تدرك وأن يبينوا له أن العقل وحدهلا يكفى " ( ).
عند ما تتكشف أهمية الخيال يصبح من الضرورة أن نتجهوجهة أخرى تتأسس عليها ، مضيفة إليها تلك العلامات التى يتشكل عبرها فىصيغة الالتقاء بين المرسل ( المبدع ) والمستقبل المتلقى ، تلك الصيغة التىتأتى فى مجملها مشكّلة من علامات لها ظاهر وباطن ، علامات لغوية تحيل إلىمفردات تمثل الهيكل الأساسى الذى يقيمه المرسل لمستقبله ، مستمدين تعريففراى للتخييل الذى يؤكد هذا الهيكل : " التخييل Fiction الأدب الذى كونأساس التقديم فيه الكلمة المطبوعة أو المكتوبة ، مثل الروايات والمقالات "( ).
والمستوى الأول للعلاقة اللغوية يمثل مستوى مباشراً تعمل فيهالكلمة على ضخ دماء منشطة لخيال المتلقى ، تمهد لاستيعابه أكبر قدر منالعلاقات ، والتفاصيل ، والصيغ للنص المطروح فى المساحة بين المرسلوالمستقبل ، أما المستوى الثانى فغير مباشر يستفيد من المستوى السابق .ففى المستوى الأول تحيل الكلمة إلى معناها المؤسس على مرجعيتها وخاصة فىالسرد ( من حيث إسنادها للراوى أو الشخصية أو كونها مروية بضمير الغائب أوالمخاطب أو المتكلم)، والراوى عندما يقول :
" وذات مساء جلست الأسرةحول المدفأة المطلية فى بهو المعيشة . كان شهر طوبة يستوى على عرشه الثلجىوالرذاذ لم ينقطع منذ الصباح الباكر . ونظر سليمان إلى ابنيه الرقيقينالمتلفعين بالعباءة المخملية المنزلية " ( )
فإننا أمام نوعين من العلامات :
1- علامة متحررة :
وسمتهاأن المتلقى لا يتوقف عندها متخيلا صيغتها الشكلية أو هيئتها ( مساء – جلست– الأسرة – لم ينقطع – الصباح الباكر – نظر )، فهى علامات لا يحتاجالمتلقى إلى تمثلها وتخيل هيئة حدوثها ، فلا يهم شكل الجلوس أو النظر فىهذا السياق ، وهى علامات تتحرك بحرية عبر الزمن يمكن للروائيين أنيستخدموها فى أى زمن موظفين إياها ، وتكاد تأخذ شكل الروابط ، أو العناصرالرابطة لهيكل النص .
2- علامة مقيِِّدة :
تلك العلامات التى لايستطيع الراوى استخدامها للإشارة إلى كل الأزمنة أو الأمكنة والمتلقى إذاما أمعن فيها النظر قد يكتشف مخالفة لواقع النص ومن ثم يرتفع مؤشر الدلالةالمنبنى على قوة الأسئلة المثارة ،و( المدفأة المطلية بالفضة ، العرشالثلجى – العباءة المخملية المنزلية ) لا تصلح لكل الأزمنة الواقعية أوالسردية، والنص الذى تدور أحداثه فى بيئة غريب عليها أن تشهد مثل هذاالمناخ يكون من المثير للتساؤل حلولها بهذه الصورة .
إن حداً منالحرية فى الاستخدام يجعل هذه العلامات تتحرك فى إطار النصوص مما يضعناأمام علامات / أشياء لها فعل النص، ولها قوة الدال ونشاطه ولها من قبل قوةالعلامة اللغوية التى تشترك فيها مع غيرها مما سبق الإشارة إليه . وعلىالرغم من أن العلامات اللغوية المتحررة قد تحيل إلى فعل عادى فإنها تظلمتحررة فى استظهارها للمعنى غير المقيد للمتلقى بخلاف العلامات التى تحيلللأشياء فى كشفها عن ثقافة ما، وخروجها عن حالة نفسية تكون قادرة علىالتعبير عنها .
العلامات / الأشياء هنا تمثل محددات للصورة المتخيلةالتى يبثها النص الذى يمكن الحكم عليه من خلال طبيعته الشيئية وحركة هذهالأشياء فيه،أو تكرار الشئ الواحد أو تجاور الأشياء المتعددة كلها تمثلاستظهاراً لهذه الصورة .
وفى مقاربتنا للنص الإبداعى نتابع مستويين للعلامة اللغوية :
*الأول: الدال:
مستوى اللفظ بوصفه علامة لغوية تمثل مفردة خطابية ( تتخاطب بها الجماعة البشرية ) و تمثل قوة للتخاطب من قبل هذه الجماعة .
*الثانى: المدلول :
مستوى اللفظ بوصفه مدلولاً ينطبق عليه الدال ( أو يطلق عليه الدال بوصفهعلاقة لغوية متعارف عليها ) ونعنى به الجوامد حسب تعريف الدكتور عبدالغفار مكاوى .
أولا :الدال
يأخذ اللفظ طابعاً لغويا صرفا ؛ينحو فيه نحو اللغة التى هى رموز اصطلاحية للتعامل وإقامة العلاقات بينأفراد الجماعة البشرية ؛ ولفظ الشيء بهذه الصفة يمثل علاقة لغوية متعددةالدلالات ، يجدر لمن يريد تأملها أن يراجع نتاج الثقافة العربية عبرالقرآن ( راجع الآيات التى أشرنا إليها سابقا ) ، والحديث ، والشعر،والنثر فلا يصعب عليه أن يتوصل إلى استقرار مفهوم اللفظ الذى تتعدددلالاته للدرجة التى يشعر المتلقى عندها أن ثمة إبهاما فى اللفظ يتراوحبين نتاج وآخر ولكنه يظل قادراً على التماسك . والصعوبة الحقيقية تكمن فىتتبع اللفظ فى نتاج الثقافة العربية متعددة الجوانب حيث تتعدد الدلالاتبين الشعر والنثر ، بين نصوص المتصوفة ونصوص السرد ، بين لغة الخطاباليومى ولغة النص الإبداعى . ومقاربتنا الشعر العربى تكشف عن قدرة اللفظعلى الإفصاح عن أسلوب خاص وقوانين فنية شديدة الخصوصية مما يؤكد ما طرحناهسابقا من تساؤل عن كون الشيء يمثل مفتاحا لقراءة النص وتأويله .
ويمكننا عبر تتبع المفردة فى سياقها الأدبى أن نتوصل إلى نتائج لها أهميتهافى ذلك، فمن الملاحظ أن استخدام العربية للفظتى ( الشيء – الأشياء )مقارنة بين الشعر والسرد يكشف عن أن الشعر يستخدم المفردتين بالصيغةالصريحة ، يقول الأمام الشافعى :
غنى بلا مال عن الناس كلهم وليس الغنى إلا عن الشئ لا به
ويقول أبو العلاء المعرى :
تشابهت الأشياء أصلا وصورة وربك لم يُسمع له بشبيه .
إحصائيا تزيد مفردة الشئ على الثلاثمائة مرة ، وأعلى معدل لتكرارها يأتى هكذا : ( )
أبو العتاهية : سبع عشرة مرة
البحترى : ثلاث عشرة مرة .
أبو العلاء المعرى : عشر مرات .
وأعلى معدل لتكرار ( الأشياء ) عند أبى العلاء المعرى ، حيث تتردد ستا وعشرين مرة .
شعرياتحتفظ المفردتان بالإشارة للمادى والمعنوى مع الإحالة للمعنى الإيحائيالذى يناسب لغة الشعر ، فالشعر يختزل الكثير من المعانى والدلالات فىالمفردة التى تعد بمثابة الوعاء الذى يمكن للشاعر أن يعتمد عليه فى سوقالمعنى المراد ، أو بث القيمة الدلالية " فى ذهن متلقيه" .
والملاحظةالتى لا يمكن تجاوزها فى السياق الشعرى أن معظم استخدامات الشعراء للمفردة( إفرادا وجمعا) تأتى فى سياق الحكمة ( لا حظ أن على رأس قائمة الشعراءأبا العتاهية ( الشيء )، وأبا العلاء ( الأشياء ) وهما الشاعران المعروفانبالحكمة والخبرة بالأيام، والإنسان )( ).
ثانيا: المدلول
إذاكان الشعر يستخدم المفردة ( الشئ/ الأشياء ) بالصورة الإيحائية بوصفهادالاً أو علامة لغوية مع احتفاظه بالحق فى استخدام المفردة بوصفها مدلولاً، فمغايرة للشعر يتعامل السرد مع الشىء بوصفه مدلولا /عنصرا من عناصرالفضاء السردى الذى يتشكل من الأشياء التى " تعد نسيجا أساسيا فى جغرافيته، تشبه البشر فى كونها تحمل أسماءها التى تمثل علامات فارقة لها عن غيرها؛ فلكل مكان أشياؤه ولكل شىء اسمه " ( ).
فى السرد تلعب الأشياء ( الجوامد ) مجموعة من الأدوار نتوقف قبل مقاربتها عند مجموعة من البدهيات :
1-مغايرة طرائق ظهور الأشياء وتقنيات هذا الظهور فى النص السردى عنها فىالنص القديم ، فالنص القديم يقدم أشياء القصة فى الوقت الذى يقدم فيه النصالجديد قصة الأشياء .
2- أن وظيفة الأشياء فى الحديث تختلف عنالاستخدام القديم ، وأن مقاربة الأشياء سرديا إنما تأتى عبر الإجابة عنمجموعة من الأسئلة التى تحاول الإحاطة بالموضوع :
أ- كيف تظهر الأشياء فى النص السردى ؟.
ب- ما العوامل المؤثرة فى ظهورها هذا ؟ .
ت- ما المستويات الوظيفية لهذه الأشياء؟.
الشيء تقنيات الظهور
من أين يمكن لمتلقى النص السردى أن يتابع أشياء السرد؟ .
تعدالعتبات النصية أولى العناصر السردية التى يمكن عندها أن نتعامل مع أشياءالنص السردى ، حيث تتسلل أشياء النص لتتبوأ مكان الصدارة على غلافالرواية:
1- العتبـــــــــــــــات
( بعد النص ، قبل القراءة )
بعدكتابة النص تنضاف إليه صيغتان تخضعان لمنطقين مختلفين ، تؤثران على عمليةالتلقى ، وتعدان آخر ما يدخل سياق النص وأول ما يتلقاه القارىء:
1- ( العنوان – الإهداء) ويخضعان لمنطق الروائى.
2- ( لوحة الغلاف ) وتخضع لمنطق القارئ الأول.
1- منطق الروائى
منطقالروائى يظهر عبر ( العنوان – الإهداء ) اللذين يمثلان نصا لا ينفصل عنالمتن نفسه ، و المكون الشيئى يعد واحداً من مكونات قوة ماثلة فى الشيءجعلته يحتل مكانه فى العتبة الأولى التى تكون أولى العناصر التى يطالعهاالقارئ ولا يغُفل تأثيرها عليه فى التلقى، وعندما يحل الشيء فى العنوانيأخذ إحدى صيغتين :
1- الإفراد .
2- التركيب .
الحالة الأولى ، حالة الإفراد يبرز الشيء مفرداً صيغة ومعنى ، وقد ظهر ذلك فى كثير من النصوص :
1-( المرايا ) و (الطريق )و( الكرنك) : نجيب محفوظ
2- (الحجاب ) : حسن نجمى .
3- (الحبل ) : إسماعيل فهد إسماعيل
4- ( الدائرة ) : نجدى إبراهيم .
5- (الخباء ) : ميرال الطحاوى .
6- ( المسلة) : نبيل سليمان . –
7- ( الولاعة ) ( الياطر ) : حنا مينه.
8- ( الصنم) : أشرف الخمايسى .
9- ( الجبل ) : فتحى غانم .
10- ( الأسوار ) : محمد جبريل .
11- ( الشمندورة ) : محمد خليل قاسم .
12- ( الأنهار) و ( الوكر) و ( الوشم ) : عبد الرحمن الربيعى
13- ( الخيوط ) : وليد أبو بكر
14- (الرغيف ) : توفيق يوسف عواد .
15- ( التلال) : هانى الراهب
16- ( السفينة ) : جبرا إبراهيم جبرا
17- ( الديزل ) : ثانى السويدى .
18- (الحزام ) : أحمد أبو دهمان .
هنايبرز العنوان الشيئ بوصفه مدخلا مسيطرا على المتلقى الأول واضعا تصوراًذهنيا عنده مما يجعله مدفوعا للربط بين النصين:العنوان بوصفه مبتدأ والنصالمتن بوصفه خبراً ( ) . والتصور القبلى ( قبل قراءة النص ) قد يحيلالمتلقى إلى مالاً تحيله القراءة الكلية ، فعنوان كـ الجبل يحيله التصورالذهنى قبل القراءة إلى العنصر المكانى المعروف، وقد يمنحه معنى الصمودوالتحمل ،وقد يختلف المعنى – وهذا ما يحدث غالبا- بعد القراءة كأن يكونالجبل علما أو صفة لإنسان ، أو معنى كليا للنص ، والعنوان بهذه الصورةيمثل المبتدأ / المعرفة الذى يصح الابتداء به ، و(المبتدأ) العنوان بهذهالصورة ليس فى حاجة لغير النص / المتن ليبث فيه دلالته، و ليمنحه قيمته فىالسياق السردى ،ولا ينشغل المتلقى به قبل القراءة التى تحيله العنوانإليها بصورة مباشرة .
يضاف لذلك ملاحظة أن العناوين الشيئية المفردةتلزم فى معظمها وضع المعرفة وصيغة المفرد عدداً إلا القليل منها ( من بينعشرين عنوانا سبق الإشارة إليها ينفرد عنوانان بصيغة الجمع ( الأنهار –الأسوار ) ، فالشيء بهذه الوضعية يقدم نفسه – مبدئيا – مكتفيا بدلالتهالأولى ، ومستدعيا تراثا للفظه يتواصل معه المتلقى، وهو ما يتكشف مع بعضالعناوين الشيئية ( الوكر – الوشم – الولاعة ) وغيرها مما يستدعى فكرامسبقا يحركه العنوان نحو ساحة التلقى ويكون مسيطرا على المتلقى بوصفهمعرفة قبلية للدرجة التى تفرض نفسها بطريقة قد تسىء للنص فتحمله مالايحتمل، وتقحم عليه مالا يقول أو ينتوى أن يقول ( ) ، وقد يحرك المتلقى إلىمنطقة محاولة المعرفة التى قد لا يقدمها النص ، فعنوان كالشمندورة ، أوالياطر يثير القارئ غير المتكئ على معرفة سابقة بها إلى محاولة المعرفةقبل النص أو المبادرة بالدخول فى النص بحثا عن معرفة بالعنوان ، وهو يكشفعن آلية للتلقى يمكن تسميتها بمحاولة المعرفة السابقة للقراءة حيث يسعىالمتلقى الذى أثاره العنوان إلى التعرف على ما يطرحه ولم تسعفه معرفته إلىإدراكه ( ) فيلجأ أحيانا إلى المعجم ليتزود بالمعرفة التى تنقصه ، وهنايبرز أهمية دور الوظيفة البينية للناقد ( القائمة على العمل الوسيط بينالمبدع والقارئ ) فى محاولته تقديم الجانب المعرفى بالنص وكاشفا عنالثقافة التى حركت النص لمنطقة الشيء الغامض فأظهرته معتزة به ، طارحةإياه بوصفه علامة على خيال روائى يمثل صوتا واعيا، ملما بهذه الثقافة .
الشيءههنا يمثل لدى المتلقى بؤرة للأحداث / النص السردى، إذ يتخيله - بداية –محوراً يدور حوله النص أو تتحرك حوله الأحداث جميعها ، والنص قد يفعل ذلكولكنها ليست القاعدة التى تنطبق على النصوص جميعها أو ليست القاعدةالملزمة لكل الروائيين، ففى الوقت الذى تتحرك فيه الشمندورة حركة متكررة ،تعاود الظهور كل حين ، ويكون ظهورها منصوصا عليه، لا نكاد نلحظ الحجاب (بوصفه شيئا ) فى تفاصيل رواية "الحجاب " لحسن نجمى ( ) .
الحالة الثانية :
حالةالتركيب حيث يأتى الشيء فى حالة مركبة ينضاف فيها إلى أو ينضاف إليه عناصرأخرى تمثل لوازم أو صفات له أو عناصر تخيلية يطرحها النص ليقيم منهادلالات جديدة ، وتتعدد الأشكال الموضحة لهذه الحالة ولكن تنتظمها صيغتانأساسيتان، يتفرع منهما صيغ أخرى :
الأولى : الشئ سابق على :
أ- صيغة زمنية :
حيث العنوان يطرح شيئا مضافا إلى فاصلة زمنية مثل :
- (ثلج الصيف) :نبيل سليمان .
- ( شبابيك منتصف الليل) :إبراهيم درغوثى( )
والعنوانبهذه الصورة يطرح معنى مجازيا ينطلق من العلاقة غير الواقعية ( التى لاتتوافق مع منطق الواقع، وإنما تصنع منطقها المجازى الخاص ) ، فالعلاقة بينالثلج والصيف أو بين الشبابيك والليل علاقة تبدو متناقضة إن لم يتدخلالخيال لحسمها بواسطة المجازالخاص للسياق لفض الاشتباك بين ما هو منطقىوما يبدو غير ذلك ، لقد كسر ثلج الصيف رتابة الواقع وأحدث خللا فى المألوفمما يجعلنا نستشعر أن حدث اقتران الثلج بالصيف كان المحرك لإبداع النص منالبداية والرواية تصرح بذلك منذ البداية :
" إن الركود لا يعنى سوى الموت .
وكان لابد للثلج أن يهمى ، لأنه قانون طبيعى ، ولم نسيطر عليه .
وقد دارت فصول وسنون ، لم نكحل عينينا طوالها ببياض الثلج .
ومنذ عدة سنوات هطل فى الصيف .
ضجت السماء بغضب رهيب ، وغاصت الهامات وكان ثمة مسافرون كثر . . . ومشاق . . . وهموم " ( )
وأياما كانت دلالة الثلج فإنه قد فرض قانونه وأحدث هذا التغيير الذى يختلفالمراقبون حوله سلبا وإيجابا . ولكن إحداث الخلل ينقلنا إلى توازن جديدمؤسس على هذا التغيير .
وفى "شبابيك منتصف الليل" ، يقدم الروائى فاتحة لنصه تطرح مجازية هذه الشبابيك :
" فتحت شباكا يطل على قلبى
فماذا رأيت ؟
....... ليلا !
وماذا رأيت ؟
...... ليلا !
وماذا رأيت ؟
......رأيت ليلا أيضا – " ( )
فعلىالرغم من أن الرؤية تبدو متجهة للداخل، داخل النفس الإنسانية ، فإنها لاتنفصل عن خلل ينتظم العالم الخارجى ، يجعل من شبابيك الظلام محمية أكثرمنها مكشوفة ، ومبهمة أكثر منها موضحة ، باسطة لمعنى يمكن إدراكه بسهولة ،وبعد هذا الطرح لا تظهر المفردة فى بقية الرواية مما يجعل المتلقى محتفظابالمدرك المجازى محاولا تفسيره بما يلائم الواقع النصى .
ب – صيغة مكانية :
وفيها تنضاف الأشياء لعلاقة مكانية يبدو الشيء منسلخا منها ومقدما عليهارغم انسباكه معها فى سبيكة المضاف والمضاف إليه . مما يقوىالإيحاء بأنالمضاف يفضى للمضاف إليه الذى يعد أصلا له، ومن هذه الصيغ :
- (زقاق المدق ) : نجيب محفوظ .
- ( نهر السماء) : فتحى إمبابى .
- ( تل القلزم ) : محمد الراوى .
- ( نجوم أريحا ) : ليانة بدر .
والصيغةههنا تقدم دلالة تكاد تكون متعددة مع ما تطرحه الصيغة من توحد، فالإضافةتطرح أثرا مكانيا يبدو فيه المضاف أصغر من المضاف إليه، ولكن التقدم فىالنطق يجعل للمضاف أهميته للفرع على الأصل ، وفى هذه الصيغة يكاد المعنىالمجازى يختفى بحلول علامات تمثل أو تعد أثراً من آثار المكان التىيختزلها الأثر فأصبح بؤرة لهذا العالم، وما زقاق المدق إلا رؤية مصغرة –على مستوى المساحة – لعالم كبير نجح الروائى فى تحريك تفاصيله للوصول إلىرؤية شبه شاملة لعالم كبير، يسعى الروائى إلى اختزاله فى هذه المساحةالمكانية القادرة – بما تضم من تفاصيل – على أن تمثل العالم الذى اجتزأتفيه خير تمثيل، وهو ما يؤثر على الشخصيات مثلا فتحول إلى نماذج ليست مرئيةخارج هذه المساحة .
جـ – صيغة فاعلة :
وفيها يكون الشيء مضافاإلى إحدى الشخصيات الروائية مما يشعرنا بخصوصية الشئ فى علاقته الحميمةبفرد / ذات قد تمثل العالم أو تشير إليه رامزة له ، ولكنها تظل هى نفسها،ويحتفظ المتلقى بها متفردة بغير ما تشير إليه ، فاستمتاع المتلقى بشخصيةروائية ينجح الروائى فى تحريكها أمامه يجعله يرى الشخصية دون ما تطرحه مندلالة ، أو ما تشير إليه من كونها نموذجا لغيرها ( ) .
ومن هذه الصيغ :
-( قنديل أم هاشم ) : يحي حقى .
- (خطط الغيطانى) : جمال الغيطانى .
- (حارة الأشراف ) : سمير ندا .
- (جبل ناعسة ) : مصطفى نصر .
-( تفاح المجانين) : يحيى يخلف .
الشيءيحيل إلى ذات / ذوات يكاد ينعدم المعنى المجازى فى الطرح الأول مما يبثإيهاما فنيا بواقع ما حقيقى ، وفى الغالب يكون الروائى رابطا نصه بواقعمستلهما نموذجا بشريا له مرجعيته شديدة الواقعية ( لاحظ خطط الغيطانى )،ولا يفوتنا الإحالة التاريخية التى قد تطرحها هذه الصيغة عندما تضعنا أمامذات لها تاريخها وتراثها السابق ( فلا يصلح أن يقدم الروائى تاريخا لطفلليس له هذا التاريخ ، وعندما فعل سليم بركات ذلك فى روايته " فقهاء الظلام" فقد طرح نموذجا عجائبيا ناسب هذه الصيغة ) ، حيث يبدو أننا أمام شخصيةيمتلئ تاريخها بما يستحق أن يحكى ، وبما يجعله قادراً على طرح مادة قابلةلأن تكون تراثا لهذه الذات ، والتراث ههنا لا يكون مرئيا مدركا ، و إلا ماقاربه الروائى وإنما هو تراث مُكتشف مباغت ( أو عليه أن يكون هكذا أو يبدوهكذا للمتلقى ) ليس ظاهراً وإنما هو سبر لأغوار الذات وكشفها بالكتابة .
يقول السارد فى خطط الغيطانى :
لننأعن الظاهر ، ولنتدل على مهل فى أغوار الباطن لنذكر بما جرى من طيرانالحديد ، وسماع اللامسموع ؛ ورؤية اللامرئى ، وانتشار الربا ، وتحريمالحلال ، وتحليل الحرام ، وتفشى العمولات الربوية ، وكثرة الوجوه الأجنبية، وقلب معانى الأخيار ، رب ، ألق السكينة فى روحى ، قو صبرى وثبت إيمانى ،فى مواجهة الرزايا ، الطف بنا يا مولانا فيما جرت به المقادير " ( ) .
جـ : صيغة شيئية :
وفيها ينضاف الشيء لشيء آخر أو لحدث آخر ، ويكون بصورة المضاف أو الشبيهبالمضاف فى صيغة تعويضية عن حالة الإضافة للمادى أو للمعنوى ومنها :
- (خرائط للموج) : سهام بيومى .
- (تصريح بالغياب) : منتصر القفاش .
وفيهاتبدو علاقة التلازم الجديد بين مفردتين قد تبدوان بعيدتين إلى حين ،حيثالشيء الأول قد بات خاصا وملازما للثانى ، وفى خرائط للموج يظل الشيءالأول طارحا معنى حقيقيا إلى أن ننتهى للثانى فيحدث الانزياح إلى المعنىالمجازى مما يطرح ثبات الثانى وحركة الأول الذى سعى أو سُعى به للارتباطبالثانى المفتقر إليه ، ومن ثم لا يفوتنا الرابطة الحرفية التى تستقر بينالشيئين ( حرف الجر ) تلك المحدثة للارتباط والفارضة سطوتها فى التقريب أوالإبعاد بين المفردتين واللام فى العنوان الأول أحدث تقاربا واضحا بينالخرائط والموج مع ملاحظة جمع الأول وإفراد الثانى ، خلاف الصيغة السابقةالتى قد يحدث فيها العكس .
وفى تصريح بالغياب ينبنى التلازم على حرفالباء الدال على الملازمة ، وفعل التصريح دائما يتعدى بهذا الحرف ( ) ممايجعل الغياب مرهونا بحضور التصريح ، كما يجعل الغياب عن الثكنات العسكريةحضورا للذات فى مكان خارجها ، هنا يكون الغياب محمودا ، مطلوبا ؛ مسعياإليه .
د . صيغة وصفية ، أو حدثية :
وفيها يسبق الشيء صيغة تعد وصفا له تضيف إليه بعدا مؤثراً فى تلقيه ومنها :
- (الخبز الحافى) : محمد شكرى .
- (التوت المر) : محمد العروسى المطوى .
- (الضوء الهارب ) : محمد برادة .
- (الجزيرة البيضاء ) : يوسف أبو رية
والصفةتمارس امتداداً للشئ قادراً على بث الحياة أو بعث الدلالة فى الأشياء علىهذه الصورة الظاهرة ، فالصفة فى مقارنتها بالحال تُعد أكثر ثباتا بحسابالزمن ، ولأن المبدع يسعى إلى اقتناص اللحظة للتعمق فيها فإنه يجعل منأشيائه شيئا ثابتا لإدراكه من ناحية ، ومن ناحية أخرى للتأكيد على أن ماهوغير إيجابى ( وهذا ما يحدث فى عالم الكتابة بشكل عام ) ثابت مستقر ممايجعل الكاتب يدعو لاستيعابه سعيا لتغييره أو التوقف عنده لرأب الصدع ( صدعالنص ) المتأثر أو المشير إلى صدع الواقع والخلل الحادث فيه ، المحفزللمبدع على محاولة تجاوزه .
ومن هذه الصيغة أيضا الموصوف النحوى التابع لنكرة ويأخذ وضعيتين :
* نكرة تتبعها جملة :
-( عربة تجرها خيول ) :حسين عبد الرحيم . ( )
أو شبه جملة :
-( حجرة فوق سطح ) : جار النبى الحلو . ( )
* نكرة تتبعها صفة نكرة أيضا :
-( سكر مر) : محمود عوض عبد العال .
-( نوافذ زرقاء ) : ابتهال سالم.
- (حجر دافئ) : رضوى عاشور.
*أو تضم الصيغتين معا :
- (أشجار قليلة عند المنحنى ) : نعمات البحيرى
-(دكة خشبية تسع اثنين بالكاد ) : شحاتة العريان ( )
وإضافةإلى ما تمنحه الصفة من استقرار زمنى ، فإن التصريح بهذه الصفات يعمل علىتفخيم الشئ الموصوف وتفعيله قبل الدخول للنص والإمساك بما يحيل إليهالعنوان الشيء الذى يأخذ طابع الهدوء ، إذ لا يقترب من الحدث مصرحا به،وإنما بطرحه الصيغة المكانية أو الإشارات المكانية ،فهو يهيئ المتلقىلتقبل الحدث الذى تتكفل الرواية وحدها بتقديمه لمتلقيها .
و الصفةهنا تعمل على إحداث علامات فارقة تميز الموصوف عن غيره ، ورغم صيغةالتنكير التى قد تلازم هذا النوع من الصيغ فإن التنكير المحدد يطرح قبلالقراءة تعدداً أو إيهاما به يحدث تشوقا لدى المتلقى يتوجه نحو التعرف علىما تعنيه النوافذ الزرقاء أو أسباب مرارة السكر أو طبيعة الحجرة فوقالسطوح أو المساحة التى تحتلها وتمنحها الدكة الخشبية التى لا تكاد تتسعلاثنين .
هـ : صيغة متعددة الأشياء بالعطف المتعدد أحيانا :
وفيها تتعدد الأشياء التى تبدو متتالية فى الوقت الذى تطرح فيه تداخلا حديثا :
- (التاج والخنجر والجسد ) :صلاح الدين بوجاه .
- (الشراع والعاصفة ) : جبرا إبراهيم جبرا .
- (الشعلة وصحراء الجليد ) : محمد حسن عبد الله .
-( الملاح والسفينة ) : محمد الباردى .
فالعطفبالواو يطرح التداخل لا التوالى ( ) ، مما يعنى تداخل الأشياء عبر أحداثهاالمشيرة إليها ، ورغم السكونية الظاهرة مبدئيا فى تداخل الأشياء بهذهالصورة فإنها سكونية مؤقتة ، حيث تلعب الأشياء لعبة الرمز الكاشف لماوراءه من دلالة ، والنص يؤيد ذلك ويؤكده ، فالتاج الرامز للسلطان والخنجرالرامز للسلطة والجسد الرامز للضحية ( الشعب ) يقول السارد مفسراً :
" هذه لعبة التاج والخنجر والجسد .
هذهلعبة التاج والخنجر والجسد : فالسلطان ينشد المداورة والرياء تحسبا، وصاحبالجيش معتد بسيفه والجنود ، أما جسد الرعية الرعاع فأعزل حينا . . . .عنيف حينا . . . . مستأثر بالأمر كله فى أحايين كانت . . وأخرى تكون : " ()
فالأشياء تمثل علامة للسلطة التى تمنحها لإنسان قد لا يكون مالكا لهذه السلطة إن لم يمتلك هذه الأشياء .
العنوانبهذه الصيغة يمنح الفرصة للجمع بين المتنوعات ( ما هو بشرى و ما هو غيرذلك) كما يعطى الفرصة للجمع بين المتناقضات "الشعلة وصحراء الجليد " التىوظفت العنصرين الشيئيين رامزة للعلاقات بين أفراد مجتمع الرواية ، بينجيلين يمثلان رؤيتين للحياة والحب بوصفه رابطا بين البشر ومؤكدا للعلاقاتالناجحة .
الثانية : الشئ لاحق لــــ :
ويكون لاحقا فى تركيبلغوى موجز يناسب لغة العنوان ، ويجعل من الشيء موقعا منتهى إليه متخذاًمساحة فى المتخيل ومرسخا لدلالته ومعناه فى سياق إنتاج دلالة العنوانومنها :
- (أضلاع الصحراء ) : إدوار الخراط .
-( ثرثرة فوق النيل) : نجيب محفوظ .
- (حين عبرنا الجسر) : عبد الرحمن منيف .
- (طعم الزيتون ) : سحر توفيق .
- (عصافير النيل) : إبراهيم أصلان .
- (فئران بلا جحور) : أحمد إبراهيم الفقيه .
-( كلب السبخة ) : محمد الهادى بن صالح .
يستثمرالشيء وجوده فى موقعه هذا مؤكداً دلالته فيتحول إلى ما يشبه الصدى أو مايتبقى من ترديد التركيب ، إذ هو المعنى المنتهى إليه، ففى" طعم الزيتون"مثلا يتجسد الزيتون بوصفه العنصر المادى الأقدر على تخيله من لدن المتلقىالذى يكون أكثر إحساسا به ، ولأن الأشياء لها وجودها الأسبق – لماديتها –من المعانى يظل المعنوى مؤجلا ، مرهونا بقراءة النص ، بخلاف العنصر المادى( الشيء ) الذى يكون له السبق فى التجسد والقدرة على مجابهة خيال المتلقى.
وعنصر كالنيل عندما يكون تاليا لعنصر سابق ( ثرثرة- عصافير ) فإنالتأويل يداخل العنصرين ولكنه لا يداخل النيل إذ يبقى النيل هو النيل ولايستطيع المتلقى بداية ( وقبل القراءة مثلا ) أن يؤول النيل أو أن يداخلهتخيل أن النيل ليس هو المدرك واقعيا ، الذى لا بد أن يلقى بظلاله علىعملية التلقى المتأثرة بهذا الوجود الواقعى ، وفى "كلب السبخة " قد تتعددالكلاب ولكن تبقى السبخة التى إن أوّلت أو صح تأويلها لسرى التأويل بدورهإلى العنصر الأول (الكلب) وبات قابلا لهذه القوة التأويلية .
الإهداء- التصدير
يمثلالإهداء ، أو العبارة المصدرة للنص( ) – فى حالة وجودهما معا أو أحدهما -المرحلة التالية للعنوان ، يتحول فيها النص بوصفه كتابا من صورته الماديةإلى معنى مهدى ، وفى الوقت نفسه يكون صورة معنوية مهداة فى شكل مادى ،فعندما يكون الإهداء متأرجحا بين المادية والمعنوية يتحرك المتلقى بينعناصر تشغل مساحة متسعة بين المهدى ، والمهدى إليهم ، كما أن الإهداءالسابق للنص يمثل الكلمة الأخيرة للمؤلف قبل أن يحل السارد محله ، أوالعلامة الشيئية الأخيرة التى يبثها المؤلف قبل أن يترك المجال للسارد .
وكثيراما يتضمن الإهداء عناصر شيئية تفضى للنص وتطرح نفسها للتلقى بوصفها عناصرداخلة فى نسيج النص ، دافعة المؤلف للكتابة ، وهو النمط الذى نجده فىرواية "قف على قبرى شويا ":
أيها الزائر ليا قف على قبرى شويا
واقرأ السبع المثانى واهدهم منك إليا
فى زمانى كنت مثلك بين طوب الأرض حيا
بعد حين أنت مثلى لست بعد الدود شيا
أهدىهذه الرواية إلى فقيد الشباب الذى لا أعرفه ، وقرأت على شاهد قبره الأبياتالسابقة " ( ) ، فيكشف المؤلف عبر الإهداء المركب عن دافعية للكتابة أولا، ثم هو يفسر العنوان ثانيا ، و عندما يتداخل المتلقى مع النص يجد نفسهأمام تكرار لعنصر ( القبر ) ، المطروح عبر العنوان ، والإهداء ، والنص ،مما يترتب عليه بناء خاص من الدلالة ينضاف للبناء العام لدلالات النص .
، فالإهداء يجعل الكتاب ( شيئا ) ماديا ذا قيمة معنوية، فقد يكون المهدى إليه روحا لا يصلها الكتاب بصورة مادية .
والتصدير يطرح بدوره عناصر شيئية ذات دلالة فى سياق النص ،وهى : - قد تحيل إلى أشياء بلفظها :
- " إنها الأشياء التى :
لا نتوقعها .
لا نتخيلها .
لا نعرفها .
يكفى فى ذلك أننا نحاول "( )
- أو تطرح أشياء بعينها ، كما يأتى تصدير "ظل الشمس" لطالب الرفاعى :
شبابيكنا من غير هوا
شبابيكنا من غير ضو
البحر مرصوف بلاط
والأودة وسع النو
عبد الرحمن الأبنودى ( )
3- منطق القارئ الأول
القارئالأول هو ذلك الفنان الذى صمم العتبة الثانية ( لوحة الغلاف ) تبعا للنسقالثانى من أنساق اللوحة ( ) . وفى معظم الأحوال لا تخلو اللوحة من أشياءالرواية التى تفرض نفسها على مصمم اللوحة لتتبوأ هذه المكانة ولتأخذ مساحةمن خياله يكون لها الأثر الأكبر فى خيال المتلقى ومن ثم تدخل بصورة فعالةفى خيال النص أو الخيال المشكل بفعل النص ( ) .
وللوقوف على هذه الحالة نستعرض نسقين : الثابت والمتغير .
فى الثابت نطرح نماذج لطبعة واحدة محاولين قراءة الأشياء عبرها، وفى النسق المتغير نقرأ غلافين لرواية واحدة ذات طبعتين مختلفتين .
أولا : النسق الثابت :
فى"تفاح المجانين "( ) يسيطر على الغلاف رسم لتفاحة تحتل مساحة واسعة منه،ويستثمر المصمم ( ) رسم التفاحة جاعلا إياه مسرحا لأشياء متعددة : بشر –تفاح صغير – عنكبوت - باب – شبكة حديدية وكلها أشياء تتساقط من التفاحة،والقارئ يجد اتفاقا واضحا بين المعرفة السابقة للقراءة وما يتوصل إليه منقراءة اللوحة / الغلاف أولا ، ثم من قراءة النص ثانيا .
وفى "تصريحبالغياب" ( ) يتصدر الغلاف رسمان متداخلان: أسلاك شائكة تمثل القطاعالأكبر من الغلاف ، ومستطيل يمثل الورقة الصغيرة المشيرة للتصريح ، أومسوغ الغياب ، ويمثل عنصر الحماية للجندى فى حركته خارج الثكنات العسكرية، وهو رسم يتكرر فى متن الرواية مع الاختلاف بين مضمون الرسمين : الداخلىوالخارجى ، (الخارجى بوصفه إطارا والداخلى بوصفه مضمونا) ، وتلعب الألوانبين الرسمين : الأسوار والتصريح دوراً بارزا بين الأسود والأزرق فىالأسلاك الشائكة، والأخضر فى التصريح مما يعطى الإيحاء بالقتامة والانقباضوراء الأسلاك والانفراج والحرية فى التصريح .
وتعد أغلفة روايات نجيبمحفوظ من الأعمال التى تسيطر فيها الأشياء المؤثرة على مصممى الأغلفة .ففى "ملحمة الحرافيش" تسيطر على الغلاف الملابس التى يرتديها الأبطالالمتخيلون والعصا الغليظة التى تمثل أداة القوة فى مجتمع شديد الإيمان بهابوصفها وسيلة للعيش الكريم ، وفى "قشتمر" يظهر الطربوش بوصفه علامة علىمجتمع الرواية . وفى "بين القصرين" يضاف للملابس المشربيات التى تتسم بهاعمارة مجتمع الرواية ، وفى" الكرنك" يضاف لذلك كله العربة الكارو والمصباحالتقليدى المعتلى عامود الإنارة والمشانق والقيود . وتمثل أعمال نجيبمحفوظ نموذجا للغلاف الثابت مع تعدد الطبعات بحيث يمكن العودة لأى طبعة منطبعات أية رواية له لاستكشاف هذه السمة المحفوظية .
وفى "أحزان نوح" ( ) تطرح الرواية نوعين من الأشياء :
1- ملابس الفلاحين .
2- البندقية .
فالملابسبوصفها علامة شيئية فارقة تطرح أثرا واضحا على القارئ قبل القراءة،وروايات الفلاح تشترك جميعها فى ذلك ، إذ تعد الأشياء فيها ( حين تأخذطريقها للغلاف ) علامات مؤهلة للدخول فى النص للدرجة التى يمكن من خلالهاتمييز بيئة معينة ( ) تطرحها الرواية .
والبندقية فى "أحزان نوح"تمثل العنصر الشيئى الأساسى الذى قام عليه النص، ولولاه ما وجدت الروايةالتى تتوالى أحداثها بسرقة بندقية نوح فلم يعدله وجود معنوى بعدها ، وقدكان حدثا جليلا انتبه له الجميع وسيطر على مجرى الأحداث منذ اللحظة الأولىللرواية .
" حدث شئ فى بلدنا . كل شرق البلد هاج فجأة . لغطت النساءوسحب رجال حارة المداكرة عصيهم وخيزرانا تهم وشماريخهم الطويلة واندفعوافى اتجاه حارة عبد الباسط ومصطبة حسان حنفى ومنتزه الست عيشة .
تجمعتالنساء على رءوس الحارات الثلاثة التى تصب فى مرمح التراكوة ، وتأوهن وهنيطرقن كفا بكف وتغيب عيونهن على مرمى البصر ، حيث كل شئ هامد ومتراخ ،والشمس تصب أشعتها على تجمعات البيوت وشجر اللبخ والجميز والجرن البعيدوكل الأشياء ، لغطت النساء وهن يغيمن بعيونهن ، فى آخر المكان : -يادىالفضيحة " ( )
لقد كانت سرقة البندقية محركا للجميع للدرجة التى نشعرعندها أن الرواية نفسها جاءت نتيجة لحادث السرقة ، ومن الواضح أن الأمرسيكون مختلفا إذا ما جاء حادث السرقة فى منتصف الرواية أو آخرها ،عندهاسيكون حادثا عرضيا لا جوهريا تأسس على حدث سابق وليس كما تصور الرواية منأن الأحداث كلها ترتبت عليه، وللقارئ بعدها أن يتأول البندقية بوصفها شيئايمثل الكثير لنوح ، أو لغيره من أفراد القرية الذين سيطر عليهم حدثالسرقة.
وفى : "مشوار "( ) تتعدد الأشياء المسيطرة على الغلاف :الطائرة – الوردة – الرسالة – الأهرام – أبو الهول – برج إيفل ، وكأنهاأشياء تمثل رؤية شاملة لعالم متعدد المشاهد ، فالرواية تمثل رحلة لراويهايتجول خلالها فى كثير من الأمكنة المستكشفة عبر ثقافتها و أشيائها المشكلةلفضاء الرواية / الرحلة، للدرجة التى يمكننا خلالها أن نستكشف جانبا منطبيعة المجتمع :
هذه الثياب هى التى تساعد على اصطياد الزوج الثرى الذى يفهم بالماركات العالمية هذه " ( ) .
ثانيا : النسق المتغير
وهوالنسق الذى تتغير فيه طبعة الرواية، ومن ثم يتغير الغلاف فتظهر أشياء أخرىهى من صميم العناصر المشكلة لفضاء الرواية، ولكن الرؤية الأخرى المنبثقةمن القراءة الأخرى ( قراءة مصمم غلاف الطبعة اللاحقة ) تسيطر عليه أشياءمغايرة ،تشكل عناصر الرؤية المغايرة ، ويمكن رصد نموذجين دالين ، اختلفمكان النشر فى الأول، نشرت الرواية فى طبعتيها فى المكان نفسه فى الثانى.
أولهما: "الدراويش يعودون إلى المنفى" ( ) ، فى طبعتها الأولى : جاء الغلافمفرغا إلى حد ما من الأشياء، فلم تظهر إلا الألوان وظهر شخصان غير واضحىنوعية الملابس ولا يمكن اكتشاف انتسابهما إلى بيئة معينة وإنما يمكنبسهولة بعد قراءة النص استكشاف الجانب الحضارى إذ هما ينتميان إلى حضارةحديثة مغايرة لما يمكن أن تطرحه كلمة الدراويش من ايحاء بملابس ذات طابعخاص .
وفى الطبعة الثانية تشكل الغلاف من لوحة تضم مجموعة من الأشياء، لوحة مصممة من أشياء متفرقة :
شواهدقبور – أحجار – أشجار – أرض خضراء يخرج منها ثلاثة أيدى وخلفية ذات لونأحمر . ويطرح كل هذا دلالات متعددة للحياة والموت والحرية والمعنىالإنسانى الضائع وكلها معان تطرحها الرواية وتؤكد عليها .
ثانيهما :"وقائع استشهاد إسماعيل النوحى" ( )، ففى طبعتها الأولى جاء الغلاف بسيطامركبا من بقع لونية متدرجة بين الأصفر والأحمر والأخضر . كما
بقلم : د. مصطفى الضبع
مدرس النقد الحديث –جامعة القاهرة
مقـــــــدمة
فىلغتنا العربية لا نكاد نجد لفظا يمكنه – تعبيريا- أن يحل محل الألفاظمعظمها، وأن يقوم بدورها قدر ما يفعله لفظ الشيء مفردا أو جمعا ، وربماكان لفظ ( الأشياء) أكثر قدرة على التعبير عن الأشياء المتآلفة أو غيرالمتآلفة ، ومن السهل أن نستخدم المفردتين للتعبير عن عناصر معروفةللمتلقى أو غير واضحة تماما أو يكتنفها جانب من الغموض ، عندها نقول هى(أشياء).
وهذه الأشياء لا تكتفى بوجودها الواقعى الذى قد لا يعيرهاالبعض فيه أدنى فاعلية فتأخذ فى تحقيق هذه الفاعلية عبر النص الإبداعى حيثكل الأشياء لابد أن تكون دالة وفاعلة.
والسؤال المركب الذى يطرح نفسه :
مامدى هذه الفاعلية ؟ وإلى أى حد يكون للأشياء هذه الأهمية فى سياق النص ؟. وهل يمكن دخول النص عبر مفاتيحه الشيئية ؟.
مع محاولة هذه الدراسة أنتجيب عن هذه الأسئلة ، فإنها تعترف – بداية- بأن النص الروائى العربى قدشكل جغرافيته من أشياء بنى عليها معناه ودلالاته للدرجة التى لا تستطيعهذه الدراسة أن تدعى لنفسها القدرة على الإحاطة بها أو التوصل لكلتقنياتها .
إنها دراسة حاولت أن تنصت لصوت الأشياء فى الرواية العربية ، مستنطقة إياها ، ناظرة إليها بوصفها تقنية وليست موضوعا نصيا .
وقد جاءت الدراسة فى :
مقدمة : تعرض لموضوعها .
مهاد نظرى : يؤسس لفكرتها.
المبحث الأول : الدال والمدلول :ويتوقف فى المنطقة المتنازع عليها وفيها ،منطقة التخييل وعلاقة النصين: الشعرى والنثرى ، وتقنيات ظهور الأشياء فىالنص السردى ، ومنطق الروائى ، والقارئ الأول ، وكيف يحكمان ظهور الأشياءفى النص السردى .
المبحث الثانى : الأشياء ومستويات الرؤية : ويجيب عن السؤال: من يرى؟ وكيف تؤثر زاوية الرؤية فى تلقى أشياء النص ؟.
المبحث الثالث : المستويات الوظيفية للأشياء :ويقارب المستويات الوظيفيةالثلاثة التى تتدرج خلالها أدوار الأشياء ووظائفها :
- الحقيقى .
- المجازى .
- السحرى .
المبحث الرابع : أشياء النص ، نص الأشياء ، ويقارب الأشياء فى النص السردىالقديم مقارنة بالأشياء فى النص الحديث ، وكيف تحول الأمر من حالة الأشياءالخاصة بالنص إلى النص الخاص بالأشياء .
مهاد نظرى
منذخطواته الأولى فى الحياة ، الإنسان فى علاقة دائمة بالأشياء ، للحد الذىيمكن التعبير عنه بالقول :إن الحياة الإنسانية ما هى إلا حركة الإنسانالمرتبطة بهذه الأشياء ، فى تعبيرها عن حالاته المختلفة ، والمغايرةللحظات حياته ، وفى قدرتها على أن تكون عناصر تملأ فراغ يومه، وتشكلجغرافية حياته ، يحملها وتحمله ، يشكل بها عالميه: الخاص والعام ،يتبادلهامع الآخرين فتكون علامة رابطة بينه وبينهم ، تعبر عن ثقافته وبيئته ،وبالجملة تبدأ حياته و تنتهى دون أن تنتهى هذه العلاقة ؛ فموته ليس معناهموتها ، إنه يتركها دليلا على وجوده الذى كان ، علامة دالة عليه تحملذكراه لمن فارقهم .
إن حياة الإنسان حضور حقيقى وممتد للأشياء فىعلاقتها به ، خالقة نظاما جديدا للمكان المشترك بينهما ، و عندها " يصبحالمكان شيئا أكثر من مجرد فراغ يهيم فيه الإنسان على وجهه وتتناثر فيه هناوهناك أشياء تهدده ،وأخرى تشبع شهوته . أجل فإن المكان ليصبح بمثابة مشهدكلى شامل ، أو منظر مسيج محدد المعالم تنتظم فى داخله جمهرة من مظاهرالنشاط الفاعل والقابل التى يستغرق فيها الإنسان " ( ).
يتعاملالإنسان مع الأشياء( لغة ) بوصفها مسلمات تعورف عليها ، و لا تحتاج قوتهاالدلالية إلى تحديد أو توضيح ، و لسان العرب يكتفى بالقول:
"و الشىء ، معلوم قال سيبويه حين أراد أن يجعل المذكر أصلا للمؤنث ألا ترى أن الشيء مذكر وهو يقع على كل ما أخبر عنه" ( ) .
ويقترب الجرجانى من صيغة أكثر دلالة للفظ ، يملأ ما تركه لسان العرب من فراغ :
"الشيءفي اللغة هو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه عند سيبويه وقيل الشيء عبارة عنالوجود وهو اسم لجميع المكونات عرضا كان أو جوهرا ويصح أن يعلم ويخبر عنهوفي الاصطلاح هو الموجود الثابت المتحقق في الخارج " ( ) .
و يكتسب اللفظ عموميته من زاويتين :
الأولى: استعماله للتعبير عن المادى والمعنوى: والقرآن الكريم حين يستخدمه فىصيغة الجمع يؤكد هذا الاستعمال، فى المواضع الأربعة التى ورد فيها ، قالتعالى :
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَتَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنتَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَااللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ " ( ) .
وقال "وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَمَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّنرَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْالنَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَإِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ "( ).
وقال" وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِوَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِمُفْسِدِينَ " ( ).
"وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ"( ).
وقدجاءت أطروحات المفسرين كاشفة، عن هذا المعنى ، قال ابن كثير : وقوله "ولاتبخسوا الناس أشياءهم" أي لا تنقصوهم أموالهم. و ورد فى الجلالين : (ولاتبخسوا الناس أشياءهم) لا تنقصوهم من حقهم شيئا .
ولم يبتعد استخدام الحديث الشريف للفظ عن هذا الإطار نفسه :
"حَدَّثَنَاعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا كَهْمَسٌ عَنْ سَيَّارٍ رَجُلٍ مِنْفَزَارَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ بُهَيْسَةَ عَنْ أَبِيهَا عَنِ النَّبِيِّصَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّىاللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فَدَخَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَقَمِيصِهِ وَقَدْ قَالَ عُثْمَانُ فَالْتَزَمَهُ فَقَالَ مَا الشَّيْءُالَّذِي لا يَحِلُّ مَنْعُهُ فَقَالَ الْمِلْحُ وَالْمَاءُ قَالَ مَاالشَّيْءُ الَّذِي لا يَحِلُّ مَنْعُهُ قَالَ إِنْ تَفْعَلِ الْخَيْرَخَيْرٌ لَكَ قَالَ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لا يَحِلُّ مَنْعُهُ قَالَ إِنْتَفْعَلِ الْخَيْرَ خَيْرٌ لَكَ وَانْتَهَى إِلَى الْمِلْحِ وَالْمَاءِقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ تَقُولُ بِهِ فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ "( )
الثانية: أن عموميته ليست أمرا يتوقف عند الاستعمال اللغوى ، المتداول ، وإنمايتعداه للاستعمال المعرفى العام ؛ فاللفظ مستعمل فى كل العلوم ، داخل فىكل المعارف ، يستخدمه اللغوى، والمؤرخ ، والفيزيائى، والأديب، والفلكى،والفيلسوف وغيرهم ، ورد فى كشف الظنون:
" فاللازم من كون الشيء غايةلنفسه أن يكون وجوده الذهني علة لوجوده الخارجي ولا محذور فيه وأما غايةالعلوم الآلية فهو حصول العمل سواء كان ذلك العمل مقصودا بالذات أو لأمرآخر يكون غاية أخيرة لتلك العلوم" ( ).
وجاء فى الحدود الأنيقة :
"الإقرار لغة : الإثبات من قر الشيء أي ثبت"( ) .
مما يؤكد انتفاء التحديد الصارم أو شبه الصارم للفظ ،مما يفسح المجال لإثارة الأسئلة حول المفهوم نفسه :
" ما هو ذلك الشىء الذى اختزلنا فى سبيله المكان إلى أقصى مداه ، ومع ذلك لا نصل إليه ولا يصل إلينا ؟( )
لقد بات اللفظ - لكثرة التداول – يكاد يستعصى على التحديد مما جعل الدكتور عبد الغفار مكاوى يتساءل :
" وما هو الشىء ؟ سؤال بسيط يوشك ألا يسأله غير البلهاء ؟ ولكن لعل الإنسان فى تاريخه الطويل قد أهمل فى السؤال عن حقيقة الشىء" ( ).
وفىالآن نفسه يطرح الدكتور عبد الغفار مكاوى تعددا شيئيا يعد صياغة جديدة للسؤال عن الشيئ :
" الحجر على الطريق شىء ، وكومة التراب فى الحقل . الجرة شىء والنبع فىالصحراء . ولكن ما حال اللبن فى الجرة والماء فى النبع ؟ هذان أيضا شيئان، كما أن السحب فى السماء أشياء ، وأوراق الخريف فى مهب الريح ، وشجرةالصبار على الدرب المهجور ، بل لعل من حقها أن تكون أشياء " ( )
ويكادهذا المفهوم يتناسب مع واقع يطلق اللفظ على الكثير من الموجودات: المادىمنها والمعنوى مما يجعل منه علامة قادرة على حمل الكثير من المعانىوالدلالات التى تخدم الكثير من العلوم والمعارف، إذ يشير إلى غيره أكثر منإشارته لنفسه أو لمعنى داخله يعمل العلم الحديث على الإشارة إليه، ففىالوقت الذى كان الشيء فيه قابلا لأن يحل – على المستوى اللغوى – محلالكثير من الألفاظ نجحت الفلسفة – إلى حد كبير - فى تحديد مفهوم الشىءناقلة إياه من واقع عام إلى حيز خاص :
" فالأشياء فى ذاتها والأشياء التى تظهر للعيان ، وكل ما هو موجود على الإطلاق ،يعرف فى لغة الفلسفة بالشىء " ( )
والدكتور عبد الغفار مكاوى لايقنع – علميا – بذلك ، فالأمر من وجهة نظرهيتطلب كثيرا من التحديد إذ ليس من الممكن أن نسمى الله شيئا أو أن ندعوالفلاح والعامل والمعلم والغزال والقطة و الجراد أشياء لذا يعمد إلى مفهومأكثر تحديدا يتناسب مع قوانين العلم والمنطق :
" والأقرب للمعقول أننسمى كل ما تجرد عن الحياة – سواء فى الطبيعة أو فى محيط الاستعمال – باسمالشىء ، كأن يكون كتلة من الصخر ، أو قطعة من الخشب ، أو كومة من التراب .وهكذا نكون قد خرجنا من المملكة الواسعة التى سمينا فيها كل موجود باسمالشىء " ( ).
المبحث الأول
التفاهم فى منطقة متنازع عليها / فيها .
تعلىالنظريات النقدية الحديثة دور المتلقى الذى يمتلك من القدرات ما يجعلهيحسن التفاهم مع المبدع عبر منطقة تفاهم تنوزع - وما يزال – عليها، ونعنىالنص أو المساحة التى تنازعت النظريات على أيهما يسودها : المبدع الذىرفعت النظريات القديمة من راياته على النص بوصفه صاحب الحق الأول فىالمملكة( النصية )، أم المتلقى الذى تجعله نظرية التلقى الأب الروحى للنص،و منطقة التنازع وإن حملت نتاجا معنويا / تخييليا، فإنها تمثل وسيطا يعدبدوره الأداة / المساحة التى يبث فيها المبدع مجموعة الإشارات، والأدلة،والموجهات التى يستثمرها المتلقى فى ممارسة دوره المنتظر ، وهى مساحةورقية ( فضاء نصى ) تعد مسرح اللقاء الذى يدخله المبدع والمتلقى متتابعين، يجتمعا ن فى المكان ولا يجمعهما الزمان، يتأثر كل منهما فيه بالآخر وإنظهر تأثير أحدهما متفوقا، والمبدع مسئول - بقوة تخيله - عن تشكيل هذاالفضاء مستثمرا قوة العلامات المشكلة خيال المتلقى عندها نحن أمام قوةخيالين أو قوتين من الخيال إحداهما باث مؤثر، والأخرى مستقبل متأثر ( ).
وعمليةالتخييل بوصفها رابطا بين الاثنين تعتمد على مجموعة من العلاقات اللغويةالتى يكون التخييل رابطا فيها بين الكلمات والأشياء بوصفهما عنصريه .
وفى هذا الجانب اعتمد الرومانسيون قوة الخيال بوصفها عنصراً للإدراك ووسيلة لتغيير البشر والحياة للأفضل :
"عرف الرومانسيون أن وظيفتهم هى الخلق ، وأن يغيروا عن طريق هذا الخلق نفسالإنسان الواعية المدركة جميعها ، حتى يوقظوا خياله على الحقيقة التى تقعوراء المألوف من الأشياء ، حتى يرفعوه من رتابة العادة المميتة إلى الوعىبالأبعاد التى لا تقاس والأعماق التى لا تدرك وأن يبينوا له أن العقل وحدهلا يكفى " ( ).
عند ما تتكشف أهمية الخيال يصبح من الضرورة أن نتجهوجهة أخرى تتأسس عليها ، مضيفة إليها تلك العلامات التى يتشكل عبرها فىصيغة الالتقاء بين المرسل ( المبدع ) والمستقبل المتلقى ، تلك الصيغة التىتأتى فى مجملها مشكّلة من علامات لها ظاهر وباطن ، علامات لغوية تحيل إلىمفردات تمثل الهيكل الأساسى الذى يقيمه المرسل لمستقبله ، مستمدين تعريففراى للتخييل الذى يؤكد هذا الهيكل : " التخييل Fiction الأدب الذى كونأساس التقديم فيه الكلمة المطبوعة أو المكتوبة ، مثل الروايات والمقالات "( ).
والمستوى الأول للعلاقة اللغوية يمثل مستوى مباشراً تعمل فيهالكلمة على ضخ دماء منشطة لخيال المتلقى ، تمهد لاستيعابه أكبر قدر منالعلاقات ، والتفاصيل ، والصيغ للنص المطروح فى المساحة بين المرسلوالمستقبل ، أما المستوى الثانى فغير مباشر يستفيد من المستوى السابق .ففى المستوى الأول تحيل الكلمة إلى معناها المؤسس على مرجعيتها وخاصة فىالسرد ( من حيث إسنادها للراوى أو الشخصية أو كونها مروية بضمير الغائب أوالمخاطب أو المتكلم)، والراوى عندما يقول :
" وذات مساء جلست الأسرةحول المدفأة المطلية فى بهو المعيشة . كان شهر طوبة يستوى على عرشه الثلجىوالرذاذ لم ينقطع منذ الصباح الباكر . ونظر سليمان إلى ابنيه الرقيقينالمتلفعين بالعباءة المخملية المنزلية " ( )
فإننا أمام نوعين من العلامات :
1- علامة متحررة :
وسمتهاأن المتلقى لا يتوقف عندها متخيلا صيغتها الشكلية أو هيئتها ( مساء – جلست– الأسرة – لم ينقطع – الصباح الباكر – نظر )، فهى علامات لا يحتاجالمتلقى إلى تمثلها وتخيل هيئة حدوثها ، فلا يهم شكل الجلوس أو النظر فىهذا السياق ، وهى علامات تتحرك بحرية عبر الزمن يمكن للروائيين أنيستخدموها فى أى زمن موظفين إياها ، وتكاد تأخذ شكل الروابط ، أو العناصرالرابطة لهيكل النص .
2- علامة مقيِِّدة :
تلك العلامات التى لايستطيع الراوى استخدامها للإشارة إلى كل الأزمنة أو الأمكنة والمتلقى إذاما أمعن فيها النظر قد يكتشف مخالفة لواقع النص ومن ثم يرتفع مؤشر الدلالةالمنبنى على قوة الأسئلة المثارة ،و( المدفأة المطلية بالفضة ، العرشالثلجى – العباءة المخملية المنزلية ) لا تصلح لكل الأزمنة الواقعية أوالسردية، والنص الذى تدور أحداثه فى بيئة غريب عليها أن تشهد مثل هذاالمناخ يكون من المثير للتساؤل حلولها بهذه الصورة .
إن حداً منالحرية فى الاستخدام يجعل هذه العلامات تتحرك فى إطار النصوص مما يضعناأمام علامات / أشياء لها فعل النص، ولها قوة الدال ونشاطه ولها من قبل قوةالعلامة اللغوية التى تشترك فيها مع غيرها مما سبق الإشارة إليه . وعلىالرغم من أن العلامات اللغوية المتحررة قد تحيل إلى فعل عادى فإنها تظلمتحررة فى استظهارها للمعنى غير المقيد للمتلقى بخلاف العلامات التى تحيلللأشياء فى كشفها عن ثقافة ما، وخروجها عن حالة نفسية تكون قادرة علىالتعبير عنها .
العلامات / الأشياء هنا تمثل محددات للصورة المتخيلةالتى يبثها النص الذى يمكن الحكم عليه من خلال طبيعته الشيئية وحركة هذهالأشياء فيه،أو تكرار الشئ الواحد أو تجاور الأشياء المتعددة كلها تمثلاستظهاراً لهذه الصورة .
وفى مقاربتنا للنص الإبداعى نتابع مستويين للعلامة اللغوية :
*الأول: الدال:
مستوى اللفظ بوصفه علامة لغوية تمثل مفردة خطابية ( تتخاطب بها الجماعة البشرية ) و تمثل قوة للتخاطب من قبل هذه الجماعة .
*الثانى: المدلول :
مستوى اللفظ بوصفه مدلولاً ينطبق عليه الدال ( أو يطلق عليه الدال بوصفهعلاقة لغوية متعارف عليها ) ونعنى به الجوامد حسب تعريف الدكتور عبدالغفار مكاوى .
أولا :الدال
يأخذ اللفظ طابعاً لغويا صرفا ؛ينحو فيه نحو اللغة التى هى رموز اصطلاحية للتعامل وإقامة العلاقات بينأفراد الجماعة البشرية ؛ ولفظ الشيء بهذه الصفة يمثل علاقة لغوية متعددةالدلالات ، يجدر لمن يريد تأملها أن يراجع نتاج الثقافة العربية عبرالقرآن ( راجع الآيات التى أشرنا إليها سابقا ) ، والحديث ، والشعر،والنثر فلا يصعب عليه أن يتوصل إلى استقرار مفهوم اللفظ الذى تتعدددلالاته للدرجة التى يشعر المتلقى عندها أن ثمة إبهاما فى اللفظ يتراوحبين نتاج وآخر ولكنه يظل قادراً على التماسك . والصعوبة الحقيقية تكمن فىتتبع اللفظ فى نتاج الثقافة العربية متعددة الجوانب حيث تتعدد الدلالاتبين الشعر والنثر ، بين نصوص المتصوفة ونصوص السرد ، بين لغة الخطاباليومى ولغة النص الإبداعى . ومقاربتنا الشعر العربى تكشف عن قدرة اللفظعلى الإفصاح عن أسلوب خاص وقوانين فنية شديدة الخصوصية مما يؤكد ما طرحناهسابقا من تساؤل عن كون الشيء يمثل مفتاحا لقراءة النص وتأويله .
ويمكننا عبر تتبع المفردة فى سياقها الأدبى أن نتوصل إلى نتائج لها أهميتهافى ذلك، فمن الملاحظ أن استخدام العربية للفظتى ( الشيء – الأشياء )مقارنة بين الشعر والسرد يكشف عن أن الشعر يستخدم المفردتين بالصيغةالصريحة ، يقول الأمام الشافعى :
غنى بلا مال عن الناس كلهم وليس الغنى إلا عن الشئ لا به
ويقول أبو العلاء المعرى :
تشابهت الأشياء أصلا وصورة وربك لم يُسمع له بشبيه .
إحصائيا تزيد مفردة الشئ على الثلاثمائة مرة ، وأعلى معدل لتكرارها يأتى هكذا : ( )
أبو العتاهية : سبع عشرة مرة
البحترى : ثلاث عشرة مرة .
أبو العلاء المعرى : عشر مرات .
وأعلى معدل لتكرار ( الأشياء ) عند أبى العلاء المعرى ، حيث تتردد ستا وعشرين مرة .
شعرياتحتفظ المفردتان بالإشارة للمادى والمعنوى مع الإحالة للمعنى الإيحائيالذى يناسب لغة الشعر ، فالشعر يختزل الكثير من المعانى والدلالات فىالمفردة التى تعد بمثابة الوعاء الذى يمكن للشاعر أن يعتمد عليه فى سوقالمعنى المراد ، أو بث القيمة الدلالية " فى ذهن متلقيه" .
والملاحظةالتى لا يمكن تجاوزها فى السياق الشعرى أن معظم استخدامات الشعراء للمفردة( إفرادا وجمعا) تأتى فى سياق الحكمة ( لا حظ أن على رأس قائمة الشعراءأبا العتاهية ( الشيء )، وأبا العلاء ( الأشياء ) وهما الشاعران المعروفانبالحكمة والخبرة بالأيام، والإنسان )( ).
ثانيا: المدلول
إذاكان الشعر يستخدم المفردة ( الشئ/ الأشياء ) بالصورة الإيحائية بوصفهادالاً أو علامة لغوية مع احتفاظه بالحق فى استخدام المفردة بوصفها مدلولاً، فمغايرة للشعر يتعامل السرد مع الشىء بوصفه مدلولا /عنصرا من عناصرالفضاء السردى الذى يتشكل من الأشياء التى " تعد نسيجا أساسيا فى جغرافيته، تشبه البشر فى كونها تحمل أسماءها التى تمثل علامات فارقة لها عن غيرها؛ فلكل مكان أشياؤه ولكل شىء اسمه " ( ).
فى السرد تلعب الأشياء ( الجوامد ) مجموعة من الأدوار نتوقف قبل مقاربتها عند مجموعة من البدهيات :
1-مغايرة طرائق ظهور الأشياء وتقنيات هذا الظهور فى النص السردى عنها فىالنص القديم ، فالنص القديم يقدم أشياء القصة فى الوقت الذى يقدم فيه النصالجديد قصة الأشياء .
2- أن وظيفة الأشياء فى الحديث تختلف عنالاستخدام القديم ، وأن مقاربة الأشياء سرديا إنما تأتى عبر الإجابة عنمجموعة من الأسئلة التى تحاول الإحاطة بالموضوع :
أ- كيف تظهر الأشياء فى النص السردى ؟.
ب- ما العوامل المؤثرة فى ظهورها هذا ؟ .
ت- ما المستويات الوظيفية لهذه الأشياء؟.
الشيء تقنيات الظهور
من أين يمكن لمتلقى النص السردى أن يتابع أشياء السرد؟ .
تعدالعتبات النصية أولى العناصر السردية التى يمكن عندها أن نتعامل مع أشياءالنص السردى ، حيث تتسلل أشياء النص لتتبوأ مكان الصدارة على غلافالرواية:
1- العتبـــــــــــــــات
( بعد النص ، قبل القراءة )
بعدكتابة النص تنضاف إليه صيغتان تخضعان لمنطقين مختلفين ، تؤثران على عمليةالتلقى ، وتعدان آخر ما يدخل سياق النص وأول ما يتلقاه القارىء:
1- ( العنوان – الإهداء) ويخضعان لمنطق الروائى.
2- ( لوحة الغلاف ) وتخضع لمنطق القارئ الأول.
1- منطق الروائى
منطقالروائى يظهر عبر ( العنوان – الإهداء ) اللذين يمثلان نصا لا ينفصل عنالمتن نفسه ، و المكون الشيئى يعد واحداً من مكونات قوة ماثلة فى الشيءجعلته يحتل مكانه فى العتبة الأولى التى تكون أولى العناصر التى يطالعهاالقارئ ولا يغُفل تأثيرها عليه فى التلقى، وعندما يحل الشيء فى العنوانيأخذ إحدى صيغتين :
1- الإفراد .
2- التركيب .
الحالة الأولى ، حالة الإفراد يبرز الشيء مفرداً صيغة ومعنى ، وقد ظهر ذلك فى كثير من النصوص :
1-( المرايا ) و (الطريق )و( الكرنك) : نجيب محفوظ
2- (الحجاب ) : حسن نجمى .
3- (الحبل ) : إسماعيل فهد إسماعيل
4- ( الدائرة ) : نجدى إبراهيم .
5- (الخباء ) : ميرال الطحاوى .
6- ( المسلة) : نبيل سليمان . –
7- ( الولاعة ) ( الياطر ) : حنا مينه.
8- ( الصنم) : أشرف الخمايسى .
9- ( الجبل ) : فتحى غانم .
10- ( الأسوار ) : محمد جبريل .
11- ( الشمندورة ) : محمد خليل قاسم .
12- ( الأنهار) و ( الوكر) و ( الوشم ) : عبد الرحمن الربيعى
13- ( الخيوط ) : وليد أبو بكر
14- (الرغيف ) : توفيق يوسف عواد .
15- ( التلال) : هانى الراهب
16- ( السفينة ) : جبرا إبراهيم جبرا
17- ( الديزل ) : ثانى السويدى .
18- (الحزام ) : أحمد أبو دهمان .
هنايبرز العنوان الشيئ بوصفه مدخلا مسيطرا على المتلقى الأول واضعا تصوراًذهنيا عنده مما يجعله مدفوعا للربط بين النصين:العنوان بوصفه مبتدأ والنصالمتن بوصفه خبراً ( ) . والتصور القبلى ( قبل قراءة النص ) قد يحيلالمتلقى إلى مالاً تحيله القراءة الكلية ، فعنوان كـ الجبل يحيله التصورالذهنى قبل القراءة إلى العنصر المكانى المعروف، وقد يمنحه معنى الصمودوالتحمل ،وقد يختلف المعنى – وهذا ما يحدث غالبا- بعد القراءة كأن يكونالجبل علما أو صفة لإنسان ، أو معنى كليا للنص ، والعنوان بهذه الصورةيمثل المبتدأ / المعرفة الذى يصح الابتداء به ، و(المبتدأ) العنوان بهذهالصورة ليس فى حاجة لغير النص / المتن ليبث فيه دلالته، و ليمنحه قيمته فىالسياق السردى ،ولا ينشغل المتلقى به قبل القراءة التى تحيله العنوانإليها بصورة مباشرة .
يضاف لذلك ملاحظة أن العناوين الشيئية المفردةتلزم فى معظمها وضع المعرفة وصيغة المفرد عدداً إلا القليل منها ( من بينعشرين عنوانا سبق الإشارة إليها ينفرد عنوانان بصيغة الجمع ( الأنهار –الأسوار ) ، فالشيء بهذه الوضعية يقدم نفسه – مبدئيا – مكتفيا بدلالتهالأولى ، ومستدعيا تراثا للفظه يتواصل معه المتلقى، وهو ما يتكشف مع بعضالعناوين الشيئية ( الوكر – الوشم – الولاعة ) وغيرها مما يستدعى فكرامسبقا يحركه العنوان نحو ساحة التلقى ويكون مسيطرا على المتلقى بوصفهمعرفة قبلية للدرجة التى تفرض نفسها بطريقة قد تسىء للنص فتحمله مالايحتمل، وتقحم عليه مالا يقول أو ينتوى أن يقول ( ) ، وقد يحرك المتلقى إلىمنطقة محاولة المعرفة التى قد لا يقدمها النص ، فعنوان كالشمندورة ، أوالياطر يثير القارئ غير المتكئ على معرفة سابقة بها إلى محاولة المعرفةقبل النص أو المبادرة بالدخول فى النص بحثا عن معرفة بالعنوان ، وهو يكشفعن آلية للتلقى يمكن تسميتها بمحاولة المعرفة السابقة للقراءة حيث يسعىالمتلقى الذى أثاره العنوان إلى التعرف على ما يطرحه ولم تسعفه معرفته إلىإدراكه ( ) فيلجأ أحيانا إلى المعجم ليتزود بالمعرفة التى تنقصه ، وهنايبرز أهمية دور الوظيفة البينية للناقد ( القائمة على العمل الوسيط بينالمبدع والقارئ ) فى محاولته تقديم الجانب المعرفى بالنص وكاشفا عنالثقافة التى حركت النص لمنطقة الشيء الغامض فأظهرته معتزة به ، طارحةإياه بوصفه علامة على خيال روائى يمثل صوتا واعيا، ملما بهذه الثقافة .
الشيءههنا يمثل لدى المتلقى بؤرة للأحداث / النص السردى، إذ يتخيله - بداية –محوراً يدور حوله النص أو تتحرك حوله الأحداث جميعها ، والنص قد يفعل ذلكولكنها ليست القاعدة التى تنطبق على النصوص جميعها أو ليست القاعدةالملزمة لكل الروائيين، ففى الوقت الذى تتحرك فيه الشمندورة حركة متكررة ،تعاود الظهور كل حين ، ويكون ظهورها منصوصا عليه، لا نكاد نلحظ الحجاب (بوصفه شيئا ) فى تفاصيل رواية "الحجاب " لحسن نجمى ( ) .
الحالة الثانية :
حالةالتركيب حيث يأتى الشيء فى حالة مركبة ينضاف فيها إلى أو ينضاف إليه عناصرأخرى تمثل لوازم أو صفات له أو عناصر تخيلية يطرحها النص ليقيم منهادلالات جديدة ، وتتعدد الأشكال الموضحة لهذه الحالة ولكن تنتظمها صيغتانأساسيتان، يتفرع منهما صيغ أخرى :
الأولى : الشئ سابق على :
أ- صيغة زمنية :
حيث العنوان يطرح شيئا مضافا إلى فاصلة زمنية مثل :
- (ثلج الصيف) :نبيل سليمان .
- ( شبابيك منتصف الليل) :إبراهيم درغوثى( )
والعنوانبهذه الصورة يطرح معنى مجازيا ينطلق من العلاقة غير الواقعية ( التى لاتتوافق مع منطق الواقع، وإنما تصنع منطقها المجازى الخاص ) ، فالعلاقة بينالثلج والصيف أو بين الشبابيك والليل علاقة تبدو متناقضة إن لم يتدخلالخيال لحسمها بواسطة المجازالخاص للسياق لفض الاشتباك بين ما هو منطقىوما يبدو غير ذلك ، لقد كسر ثلج الصيف رتابة الواقع وأحدث خللا فى المألوفمما يجعلنا نستشعر أن حدث اقتران الثلج بالصيف كان المحرك لإبداع النص منالبداية والرواية تصرح بذلك منذ البداية :
" إن الركود لا يعنى سوى الموت .
وكان لابد للثلج أن يهمى ، لأنه قانون طبيعى ، ولم نسيطر عليه .
وقد دارت فصول وسنون ، لم نكحل عينينا طوالها ببياض الثلج .
ومنذ عدة سنوات هطل فى الصيف .
ضجت السماء بغضب رهيب ، وغاصت الهامات وكان ثمة مسافرون كثر . . . ومشاق . . . وهموم " ( )
وأياما كانت دلالة الثلج فإنه قد فرض قانونه وأحدث هذا التغيير الذى يختلفالمراقبون حوله سلبا وإيجابا . ولكن إحداث الخلل ينقلنا إلى توازن جديدمؤسس على هذا التغيير .
وفى "شبابيك منتصف الليل" ، يقدم الروائى فاتحة لنصه تطرح مجازية هذه الشبابيك :
" فتحت شباكا يطل على قلبى
فماذا رأيت ؟
....... ليلا !
وماذا رأيت ؟
...... ليلا !
وماذا رأيت ؟
......رأيت ليلا أيضا – " ( )
فعلىالرغم من أن الرؤية تبدو متجهة للداخل، داخل النفس الإنسانية ، فإنها لاتنفصل عن خلل ينتظم العالم الخارجى ، يجعل من شبابيك الظلام محمية أكثرمنها مكشوفة ، ومبهمة أكثر منها موضحة ، باسطة لمعنى يمكن إدراكه بسهولة ،وبعد هذا الطرح لا تظهر المفردة فى بقية الرواية مما يجعل المتلقى محتفظابالمدرك المجازى محاولا تفسيره بما يلائم الواقع النصى .
ب – صيغة مكانية :
وفيها تنضاف الأشياء لعلاقة مكانية يبدو الشيء منسلخا منها ومقدما عليهارغم انسباكه معها فى سبيكة المضاف والمضاف إليه . مما يقوىالإيحاء بأنالمضاف يفضى للمضاف إليه الذى يعد أصلا له، ومن هذه الصيغ :
- (زقاق المدق ) : نجيب محفوظ .
- ( نهر السماء) : فتحى إمبابى .
- ( تل القلزم ) : محمد الراوى .
- ( نجوم أريحا ) : ليانة بدر .
والصيغةههنا تقدم دلالة تكاد تكون متعددة مع ما تطرحه الصيغة من توحد، فالإضافةتطرح أثرا مكانيا يبدو فيه المضاف أصغر من المضاف إليه، ولكن التقدم فىالنطق يجعل للمضاف أهميته للفرع على الأصل ، وفى هذه الصيغة يكاد المعنىالمجازى يختفى بحلول علامات تمثل أو تعد أثراً من آثار المكان التىيختزلها الأثر فأصبح بؤرة لهذا العالم، وما زقاق المدق إلا رؤية مصغرة –على مستوى المساحة – لعالم كبير نجح الروائى فى تحريك تفاصيله للوصول إلىرؤية شبه شاملة لعالم كبير، يسعى الروائى إلى اختزاله فى هذه المساحةالمكانية القادرة – بما تضم من تفاصيل – على أن تمثل العالم الذى اجتزأتفيه خير تمثيل، وهو ما يؤثر على الشخصيات مثلا فتحول إلى نماذج ليست مرئيةخارج هذه المساحة .
جـ – صيغة فاعلة :
وفيها يكون الشيء مضافاإلى إحدى الشخصيات الروائية مما يشعرنا بخصوصية الشئ فى علاقته الحميمةبفرد / ذات قد تمثل العالم أو تشير إليه رامزة له ، ولكنها تظل هى نفسها،ويحتفظ المتلقى بها متفردة بغير ما تشير إليه ، فاستمتاع المتلقى بشخصيةروائية ينجح الروائى فى تحريكها أمامه يجعله يرى الشخصية دون ما تطرحه مندلالة ، أو ما تشير إليه من كونها نموذجا لغيرها ( ) .
ومن هذه الصيغ :
-( قنديل أم هاشم ) : يحي حقى .
- (خطط الغيطانى) : جمال الغيطانى .
- (حارة الأشراف ) : سمير ندا .
- (جبل ناعسة ) : مصطفى نصر .
-( تفاح المجانين) : يحيى يخلف .
الشيءيحيل إلى ذات / ذوات يكاد ينعدم المعنى المجازى فى الطرح الأول مما يبثإيهاما فنيا بواقع ما حقيقى ، وفى الغالب يكون الروائى رابطا نصه بواقعمستلهما نموذجا بشريا له مرجعيته شديدة الواقعية ( لاحظ خطط الغيطانى )،ولا يفوتنا الإحالة التاريخية التى قد تطرحها هذه الصيغة عندما تضعنا أمامذات لها تاريخها وتراثها السابق ( فلا يصلح أن يقدم الروائى تاريخا لطفلليس له هذا التاريخ ، وعندما فعل سليم بركات ذلك فى روايته " فقهاء الظلام" فقد طرح نموذجا عجائبيا ناسب هذه الصيغة ) ، حيث يبدو أننا أمام شخصيةيمتلئ تاريخها بما يستحق أن يحكى ، وبما يجعله قادراً على طرح مادة قابلةلأن تكون تراثا لهذه الذات ، والتراث ههنا لا يكون مرئيا مدركا ، و إلا ماقاربه الروائى وإنما هو تراث مُكتشف مباغت ( أو عليه أن يكون هكذا أو يبدوهكذا للمتلقى ) ليس ظاهراً وإنما هو سبر لأغوار الذات وكشفها بالكتابة .
يقول السارد فى خطط الغيطانى :
لننأعن الظاهر ، ولنتدل على مهل فى أغوار الباطن لنذكر بما جرى من طيرانالحديد ، وسماع اللامسموع ؛ ورؤية اللامرئى ، وانتشار الربا ، وتحريمالحلال ، وتحليل الحرام ، وتفشى العمولات الربوية ، وكثرة الوجوه الأجنبية، وقلب معانى الأخيار ، رب ، ألق السكينة فى روحى ، قو صبرى وثبت إيمانى ،فى مواجهة الرزايا ، الطف بنا يا مولانا فيما جرت به المقادير " ( ) .
جـ : صيغة شيئية :
وفيها ينضاف الشيء لشيء آخر أو لحدث آخر ، ويكون بصورة المضاف أو الشبيهبالمضاف فى صيغة تعويضية عن حالة الإضافة للمادى أو للمعنوى ومنها :
- (خرائط للموج) : سهام بيومى .
- (تصريح بالغياب) : منتصر القفاش .
وفيهاتبدو علاقة التلازم الجديد بين مفردتين قد تبدوان بعيدتين إلى حين ،حيثالشيء الأول قد بات خاصا وملازما للثانى ، وفى خرائط للموج يظل الشيءالأول طارحا معنى حقيقيا إلى أن ننتهى للثانى فيحدث الانزياح إلى المعنىالمجازى مما يطرح ثبات الثانى وحركة الأول الذى سعى أو سُعى به للارتباطبالثانى المفتقر إليه ، ومن ثم لا يفوتنا الرابطة الحرفية التى تستقر بينالشيئين ( حرف الجر ) تلك المحدثة للارتباط والفارضة سطوتها فى التقريب أوالإبعاد بين المفردتين واللام فى العنوان الأول أحدث تقاربا واضحا بينالخرائط والموج مع ملاحظة جمع الأول وإفراد الثانى ، خلاف الصيغة السابقةالتى قد يحدث فيها العكس .
وفى تصريح بالغياب ينبنى التلازم على حرفالباء الدال على الملازمة ، وفعل التصريح دائما يتعدى بهذا الحرف ( ) ممايجعل الغياب مرهونا بحضور التصريح ، كما يجعل الغياب عن الثكنات العسكريةحضورا للذات فى مكان خارجها ، هنا يكون الغياب محمودا ، مطلوبا ؛ مسعياإليه .
د . صيغة وصفية ، أو حدثية :
وفيها يسبق الشيء صيغة تعد وصفا له تضيف إليه بعدا مؤثراً فى تلقيه ومنها :
- (الخبز الحافى) : محمد شكرى .
- (التوت المر) : محمد العروسى المطوى .
- (الضوء الهارب ) : محمد برادة .
- (الجزيرة البيضاء ) : يوسف أبو رية
والصفةتمارس امتداداً للشئ قادراً على بث الحياة أو بعث الدلالة فى الأشياء علىهذه الصورة الظاهرة ، فالصفة فى مقارنتها بالحال تُعد أكثر ثباتا بحسابالزمن ، ولأن المبدع يسعى إلى اقتناص اللحظة للتعمق فيها فإنه يجعل منأشيائه شيئا ثابتا لإدراكه من ناحية ، ومن ناحية أخرى للتأكيد على أن ماهوغير إيجابى ( وهذا ما يحدث فى عالم الكتابة بشكل عام ) ثابت مستقر ممايجعل الكاتب يدعو لاستيعابه سعيا لتغييره أو التوقف عنده لرأب الصدع ( صدعالنص ) المتأثر أو المشير إلى صدع الواقع والخلل الحادث فيه ، المحفزللمبدع على محاولة تجاوزه .
ومن هذه الصيغة أيضا الموصوف النحوى التابع لنكرة ويأخذ وضعيتين :
* نكرة تتبعها جملة :
-( عربة تجرها خيول ) :حسين عبد الرحيم . ( )
أو شبه جملة :
-( حجرة فوق سطح ) : جار النبى الحلو . ( )
* نكرة تتبعها صفة نكرة أيضا :
-( سكر مر) : محمود عوض عبد العال .
-( نوافذ زرقاء ) : ابتهال سالم.
- (حجر دافئ) : رضوى عاشور.
*أو تضم الصيغتين معا :
- (أشجار قليلة عند المنحنى ) : نعمات البحيرى
-(دكة خشبية تسع اثنين بالكاد ) : شحاتة العريان ( )
وإضافةإلى ما تمنحه الصفة من استقرار زمنى ، فإن التصريح بهذه الصفات يعمل علىتفخيم الشئ الموصوف وتفعيله قبل الدخول للنص والإمساك بما يحيل إليهالعنوان الشيء الذى يأخذ طابع الهدوء ، إذ لا يقترب من الحدث مصرحا به،وإنما بطرحه الصيغة المكانية أو الإشارات المكانية ،فهو يهيئ المتلقىلتقبل الحدث الذى تتكفل الرواية وحدها بتقديمه لمتلقيها .
و الصفةهنا تعمل على إحداث علامات فارقة تميز الموصوف عن غيره ، ورغم صيغةالتنكير التى قد تلازم هذا النوع من الصيغ فإن التنكير المحدد يطرح قبلالقراءة تعدداً أو إيهاما به يحدث تشوقا لدى المتلقى يتوجه نحو التعرف علىما تعنيه النوافذ الزرقاء أو أسباب مرارة السكر أو طبيعة الحجرة فوقالسطوح أو المساحة التى تحتلها وتمنحها الدكة الخشبية التى لا تكاد تتسعلاثنين .
هـ : صيغة متعددة الأشياء بالعطف المتعدد أحيانا :
وفيها تتعدد الأشياء التى تبدو متتالية فى الوقت الذى تطرح فيه تداخلا حديثا :
- (التاج والخنجر والجسد ) :صلاح الدين بوجاه .
- (الشراع والعاصفة ) : جبرا إبراهيم جبرا .
- (الشعلة وصحراء الجليد ) : محمد حسن عبد الله .
-( الملاح والسفينة ) : محمد الباردى .
فالعطفبالواو يطرح التداخل لا التوالى ( ) ، مما يعنى تداخل الأشياء عبر أحداثهاالمشيرة إليها ، ورغم السكونية الظاهرة مبدئيا فى تداخل الأشياء بهذهالصورة فإنها سكونية مؤقتة ، حيث تلعب الأشياء لعبة الرمز الكاشف لماوراءه من دلالة ، والنص يؤيد ذلك ويؤكده ، فالتاج الرامز للسلطان والخنجرالرامز للسلطة والجسد الرامز للضحية ( الشعب ) يقول السارد مفسراً :
" هذه لعبة التاج والخنجر والجسد .
هذهلعبة التاج والخنجر والجسد : فالسلطان ينشد المداورة والرياء تحسبا، وصاحبالجيش معتد بسيفه والجنود ، أما جسد الرعية الرعاع فأعزل حينا . . . .عنيف حينا . . . . مستأثر بالأمر كله فى أحايين كانت . . وأخرى تكون : " ()
فالأشياء تمثل علامة للسلطة التى تمنحها لإنسان قد لا يكون مالكا لهذه السلطة إن لم يمتلك هذه الأشياء .
العنوانبهذه الصيغة يمنح الفرصة للجمع بين المتنوعات ( ما هو بشرى و ما هو غيرذلك) كما يعطى الفرصة للجمع بين المتناقضات "الشعلة وصحراء الجليد " التىوظفت العنصرين الشيئيين رامزة للعلاقات بين أفراد مجتمع الرواية ، بينجيلين يمثلان رؤيتين للحياة والحب بوصفه رابطا بين البشر ومؤكدا للعلاقاتالناجحة .
الثانية : الشئ لاحق لــــ :
ويكون لاحقا فى تركيبلغوى موجز يناسب لغة العنوان ، ويجعل من الشيء موقعا منتهى إليه متخذاًمساحة فى المتخيل ومرسخا لدلالته ومعناه فى سياق إنتاج دلالة العنوانومنها :
- (أضلاع الصحراء ) : إدوار الخراط .
-( ثرثرة فوق النيل) : نجيب محفوظ .
- (حين عبرنا الجسر) : عبد الرحمن منيف .
- (طعم الزيتون ) : سحر توفيق .
- (عصافير النيل) : إبراهيم أصلان .
- (فئران بلا جحور) : أحمد إبراهيم الفقيه .
-( كلب السبخة ) : محمد الهادى بن صالح .
يستثمرالشيء وجوده فى موقعه هذا مؤكداً دلالته فيتحول إلى ما يشبه الصدى أو مايتبقى من ترديد التركيب ، إذ هو المعنى المنتهى إليه، ففى" طعم الزيتون"مثلا يتجسد الزيتون بوصفه العنصر المادى الأقدر على تخيله من لدن المتلقىالذى يكون أكثر إحساسا به ، ولأن الأشياء لها وجودها الأسبق – لماديتها –من المعانى يظل المعنوى مؤجلا ، مرهونا بقراءة النص ، بخلاف العنصر المادى( الشيء ) الذى يكون له السبق فى التجسد والقدرة على مجابهة خيال المتلقى.
وعنصر كالنيل عندما يكون تاليا لعنصر سابق ( ثرثرة- عصافير ) فإنالتأويل يداخل العنصرين ولكنه لا يداخل النيل إذ يبقى النيل هو النيل ولايستطيع المتلقى بداية ( وقبل القراءة مثلا ) أن يؤول النيل أو أن يداخلهتخيل أن النيل ليس هو المدرك واقعيا ، الذى لا بد أن يلقى بظلاله علىعملية التلقى المتأثرة بهذا الوجود الواقعى ، وفى "كلب السبخة " قد تتعددالكلاب ولكن تبقى السبخة التى إن أوّلت أو صح تأويلها لسرى التأويل بدورهإلى العنصر الأول (الكلب) وبات قابلا لهذه القوة التأويلية .
الإهداء- التصدير
يمثلالإهداء ، أو العبارة المصدرة للنص( ) – فى حالة وجودهما معا أو أحدهما -المرحلة التالية للعنوان ، يتحول فيها النص بوصفه كتابا من صورته الماديةإلى معنى مهدى ، وفى الوقت نفسه يكون صورة معنوية مهداة فى شكل مادى ،فعندما يكون الإهداء متأرجحا بين المادية والمعنوية يتحرك المتلقى بينعناصر تشغل مساحة متسعة بين المهدى ، والمهدى إليهم ، كما أن الإهداءالسابق للنص يمثل الكلمة الأخيرة للمؤلف قبل أن يحل السارد محله ، أوالعلامة الشيئية الأخيرة التى يبثها المؤلف قبل أن يترك المجال للسارد .
وكثيراما يتضمن الإهداء عناصر شيئية تفضى للنص وتطرح نفسها للتلقى بوصفها عناصرداخلة فى نسيج النص ، دافعة المؤلف للكتابة ، وهو النمط الذى نجده فىرواية "قف على قبرى شويا ":
أيها الزائر ليا قف على قبرى شويا
واقرأ السبع المثانى واهدهم منك إليا
فى زمانى كنت مثلك بين طوب الأرض حيا
بعد حين أنت مثلى لست بعد الدود شيا
أهدىهذه الرواية إلى فقيد الشباب الذى لا أعرفه ، وقرأت على شاهد قبره الأبياتالسابقة " ( ) ، فيكشف المؤلف عبر الإهداء المركب عن دافعية للكتابة أولا، ثم هو يفسر العنوان ثانيا ، و عندما يتداخل المتلقى مع النص يجد نفسهأمام تكرار لعنصر ( القبر ) ، المطروح عبر العنوان ، والإهداء ، والنص ،مما يترتب عليه بناء خاص من الدلالة ينضاف للبناء العام لدلالات النص .
، فالإهداء يجعل الكتاب ( شيئا ) ماديا ذا قيمة معنوية، فقد يكون المهدى إليه روحا لا يصلها الكتاب بصورة مادية .
والتصدير يطرح بدوره عناصر شيئية ذات دلالة فى سياق النص ،وهى : - قد تحيل إلى أشياء بلفظها :
- " إنها الأشياء التى :
لا نتوقعها .
لا نتخيلها .
لا نعرفها .
يكفى فى ذلك أننا نحاول "( )
- أو تطرح أشياء بعينها ، كما يأتى تصدير "ظل الشمس" لطالب الرفاعى :
شبابيكنا من غير هوا
شبابيكنا من غير ضو
البحر مرصوف بلاط
والأودة وسع النو
عبد الرحمن الأبنودى ( )
3- منطق القارئ الأول
القارئالأول هو ذلك الفنان الذى صمم العتبة الثانية ( لوحة الغلاف ) تبعا للنسقالثانى من أنساق اللوحة ( ) . وفى معظم الأحوال لا تخلو اللوحة من أشياءالرواية التى تفرض نفسها على مصمم اللوحة لتتبوأ هذه المكانة ولتأخذ مساحةمن خياله يكون لها الأثر الأكبر فى خيال المتلقى ومن ثم تدخل بصورة فعالةفى خيال النص أو الخيال المشكل بفعل النص ( ) .
وللوقوف على هذه الحالة نستعرض نسقين : الثابت والمتغير .
فى الثابت نطرح نماذج لطبعة واحدة محاولين قراءة الأشياء عبرها، وفى النسق المتغير نقرأ غلافين لرواية واحدة ذات طبعتين مختلفتين .
أولا : النسق الثابت :
فى"تفاح المجانين "( ) يسيطر على الغلاف رسم لتفاحة تحتل مساحة واسعة منه،ويستثمر المصمم ( ) رسم التفاحة جاعلا إياه مسرحا لأشياء متعددة : بشر –تفاح صغير – عنكبوت - باب – شبكة حديدية وكلها أشياء تتساقط من التفاحة،والقارئ يجد اتفاقا واضحا بين المعرفة السابقة للقراءة وما يتوصل إليه منقراءة اللوحة / الغلاف أولا ، ثم من قراءة النص ثانيا .
وفى "تصريحبالغياب" ( ) يتصدر الغلاف رسمان متداخلان: أسلاك شائكة تمثل القطاعالأكبر من الغلاف ، ومستطيل يمثل الورقة الصغيرة المشيرة للتصريح ، أومسوغ الغياب ، ويمثل عنصر الحماية للجندى فى حركته خارج الثكنات العسكرية، وهو رسم يتكرر فى متن الرواية مع الاختلاف بين مضمون الرسمين : الداخلىوالخارجى ، (الخارجى بوصفه إطارا والداخلى بوصفه مضمونا) ، وتلعب الألوانبين الرسمين : الأسوار والتصريح دوراً بارزا بين الأسود والأزرق فىالأسلاك الشائكة، والأخضر فى التصريح مما يعطى الإيحاء بالقتامة والانقباضوراء الأسلاك والانفراج والحرية فى التصريح .
وتعد أغلفة روايات نجيبمحفوظ من الأعمال التى تسيطر فيها الأشياء المؤثرة على مصممى الأغلفة .ففى "ملحمة الحرافيش" تسيطر على الغلاف الملابس التى يرتديها الأبطالالمتخيلون والعصا الغليظة التى تمثل أداة القوة فى مجتمع شديد الإيمان بهابوصفها وسيلة للعيش الكريم ، وفى "قشتمر" يظهر الطربوش بوصفه علامة علىمجتمع الرواية . وفى "بين القصرين" يضاف للملابس المشربيات التى تتسم بهاعمارة مجتمع الرواية ، وفى" الكرنك" يضاف لذلك كله العربة الكارو والمصباحالتقليدى المعتلى عامود الإنارة والمشانق والقيود . وتمثل أعمال نجيبمحفوظ نموذجا للغلاف الثابت مع تعدد الطبعات بحيث يمكن العودة لأى طبعة منطبعات أية رواية له لاستكشاف هذه السمة المحفوظية .
وفى "أحزان نوح" ( ) تطرح الرواية نوعين من الأشياء :
1- ملابس الفلاحين .
2- البندقية .
فالملابسبوصفها علامة شيئية فارقة تطرح أثرا واضحا على القارئ قبل القراءة،وروايات الفلاح تشترك جميعها فى ذلك ، إذ تعد الأشياء فيها ( حين تأخذطريقها للغلاف ) علامات مؤهلة للدخول فى النص للدرجة التى يمكن من خلالهاتمييز بيئة معينة ( ) تطرحها الرواية .
والبندقية فى "أحزان نوح"تمثل العنصر الشيئى الأساسى الذى قام عليه النص، ولولاه ما وجدت الروايةالتى تتوالى أحداثها بسرقة بندقية نوح فلم يعدله وجود معنوى بعدها ، وقدكان حدثا جليلا انتبه له الجميع وسيطر على مجرى الأحداث منذ اللحظة الأولىللرواية .
" حدث شئ فى بلدنا . كل شرق البلد هاج فجأة . لغطت النساءوسحب رجال حارة المداكرة عصيهم وخيزرانا تهم وشماريخهم الطويلة واندفعوافى اتجاه حارة عبد الباسط ومصطبة حسان حنفى ومنتزه الست عيشة .
تجمعتالنساء على رءوس الحارات الثلاثة التى تصب فى مرمح التراكوة ، وتأوهن وهنيطرقن كفا بكف وتغيب عيونهن على مرمى البصر ، حيث كل شئ هامد ومتراخ ،والشمس تصب أشعتها على تجمعات البيوت وشجر اللبخ والجميز والجرن البعيدوكل الأشياء ، لغطت النساء وهن يغيمن بعيونهن ، فى آخر المكان : -يادىالفضيحة " ( )
لقد كانت سرقة البندقية محركا للجميع للدرجة التى نشعرعندها أن الرواية نفسها جاءت نتيجة لحادث السرقة ، ومن الواضح أن الأمرسيكون مختلفا إذا ما جاء حادث السرقة فى منتصف الرواية أو آخرها ،عندهاسيكون حادثا عرضيا لا جوهريا تأسس على حدث سابق وليس كما تصور الرواية منأن الأحداث كلها ترتبت عليه، وللقارئ بعدها أن يتأول البندقية بوصفها شيئايمثل الكثير لنوح ، أو لغيره من أفراد القرية الذين سيطر عليهم حدثالسرقة.
وفى : "مشوار "( ) تتعدد الأشياء المسيطرة على الغلاف :الطائرة – الوردة – الرسالة – الأهرام – أبو الهول – برج إيفل ، وكأنهاأشياء تمثل رؤية شاملة لعالم متعدد المشاهد ، فالرواية تمثل رحلة لراويهايتجول خلالها فى كثير من الأمكنة المستكشفة عبر ثقافتها و أشيائها المشكلةلفضاء الرواية / الرحلة، للدرجة التى يمكننا خلالها أن نستكشف جانبا منطبيعة المجتمع :
هذه الثياب هى التى تساعد على اصطياد الزوج الثرى الذى يفهم بالماركات العالمية هذه " ( ) .
ثانيا : النسق المتغير
وهوالنسق الذى تتغير فيه طبعة الرواية، ومن ثم يتغير الغلاف فتظهر أشياء أخرىهى من صميم العناصر المشكلة لفضاء الرواية، ولكن الرؤية الأخرى المنبثقةمن القراءة الأخرى ( قراءة مصمم غلاف الطبعة اللاحقة ) تسيطر عليه أشياءمغايرة ،تشكل عناصر الرؤية المغايرة ، ويمكن رصد نموذجين دالين ، اختلفمكان النشر فى الأول، نشرت الرواية فى طبعتيها فى المكان نفسه فى الثانى.
أولهما: "الدراويش يعودون إلى المنفى" ( ) ، فى طبعتها الأولى : جاء الغلافمفرغا إلى حد ما من الأشياء، فلم تظهر إلا الألوان وظهر شخصان غير واضحىنوعية الملابس ولا يمكن اكتشاف انتسابهما إلى بيئة معينة وإنما يمكنبسهولة بعد قراءة النص استكشاف الجانب الحضارى إذ هما ينتميان إلى حضارةحديثة مغايرة لما يمكن أن تطرحه كلمة الدراويش من ايحاء بملابس ذات طابعخاص .
وفى الطبعة الثانية تشكل الغلاف من لوحة تضم مجموعة من الأشياء، لوحة مصممة من أشياء متفرقة :
شواهدقبور – أحجار – أشجار – أرض خضراء يخرج منها ثلاثة أيدى وخلفية ذات لونأحمر . ويطرح كل هذا دلالات متعددة للحياة والموت والحرية والمعنىالإنسانى الضائع وكلها معان تطرحها الرواية وتؤكد عليها .
ثانيهما :"وقائع استشهاد إسماعيل النوحى" ( )، ففى طبعتها الأولى جاء الغلاف بسيطامركبا من بقع لونية متدرجة بين الأصفر والأحمر والأخضر . كما