جماليات التشكيل المكاني
في القصيدة العربية الحديثة
كان من إسهامات النقد الرومانسي التأكيد على الوحدة العضوية للنص الأدبي، غير أن هذه الوحدة لم يتأت لها الفهم الدقيق إلا مع الدراسات البنيوية اللاحقة التي تنظر إلى النص الأدبي بوصفه كلاً عضوياً متكاملاً، بمعنى أن تلقيه لا يتم « كحاصل جمع آلي للعناصر التي تؤلفه، بل إن تفتيت هذه العناصر كل على حدة يترتب عليه فقدان قوام العمل بأكمله، فكل عنصر لا يتحقق له وجوده إلا في علاقته ببقية العناصر، ثم في علاقته بالكل البنائي للنص الأدبي » [1]وتتجه العناية في هذه الحالة إلى مكونات التشكيل اللغوي لأنها القادرة على تحديد الوجود الموضوعي للنص الأدبي، وبذلك يعنى بإيقاع القصيدة وصورها بوصفهما ذائبين معا في إطار كلية النص وعضويته على السواء .
وأخذ الشكل الكتابي يلفت الأنظار إليه بوصفه عنصراً دالاً مندغماً في كلية النص، ولعل النظرة العاجلة على نصين مكتوبين تدفع إلى القول إن هذا شعر، وهذا ليس شعراً، من مجرد معرفة الطريقة المألوفة لكتابة الشعر . ويقتضي الشعر ضروباً من العناية بالتشكيل الكتابي، بل ويرافق ذلك خطوط ورسوم أحيانا .
ولست في سياق التعرض لترقيم المقطوعات ـ مثلا ـ لأنها تمثل تشكيلا مألوفا له دلالته ،لأنه « من المستبعد أن يكون الشكل الكتابي، وهو أحد مظاهر النص اللغوي محايداً في موقفه في بنية النص، وإن كانت قيمة النظام الخطي في ذلك النص أقل جوهرية ـ بالطبع ـ مما هي في نظيره اللفظي ـ أي الشعري ـ » [2].
ولقد تعرض الدارسون إلى الحديث عن جسد القصيدة مرة أو فضائها أو تشكيلها المكاني مرة أخرى، وكلها تعبر عن » الحيز المكاني الذي تأخذه الكلمات، أو الحيز المكاني الذي تأخذه البحور في الصفحة أو في مساحة أو أرضية تعد لذلك « [3]، بمعنى أن الشاعر يشرع في انتهاك بياض القصيدة بالكلمات، وتلتقي عين المتلقي بامتلاء وفراغ، تلتهم فيه الكتابة بياض الصفحة، ويحاصر البياض الكتابة، أو تتراجع عنه .
ويلتزم نظام الشطرين سمترية بصرية واحدة متكررة، وهي سمترية ثابتة، على الرغم من ان مساحة الامتلاء تتفاوت بحسب طبيعة الأوزان، إن كانت طويلة أو قصيرة، »فالتشكيل المكاني في قصيدة من بحر الطويل أو البسيط لا بد أن تحتل في الورق أو الحجر أو الخشب مساحة أكبر من تلك التي يحتلها التشكيل المكاني لقصيدة من بحر الكامل والسريع، ناهيك عن اختلاف التشكيل المكاني الناشئ بين هذه البحور ومجزوءاتها« [4]، وتنجم هذه السمترية البصرية عن توزيع الأبيات الشعرية بطريقة طابقية على حد تعبير بلند الحيدري، أي أن هناك فراغا يقع أعلى القصيدة وأسفلها، وعلى جناحي الصدر والعجز وهناك » نهر من الفراغ أو البياض « فيما بينهما، كما يقول عبد العزيز المقالح[5].
وليس خافياً ان الثقافة العربية ـ والشعر أبرز مكوناتها ـ بدأت شفويةً، ومن ثم جاء تدوينها في مراحل لاحقة لزمن الإنشاد، وينبئ الفضاء عن كيفية الإنشاد، ويحدد طبيعة الوقفات من ناحية، ويحدد ايضاً موجات الأبيات بشكلها التراكبي التي تتعاقب فيه الواحدة تلو الأخرى من ناحية أخرى ـ وهذا ما دفع دارساً إلى القول إن » التوازي والتقابل المتعدد الأبعاد فضائياً، يوازيان آلياً توازياً وتقابلاً آخرين على مستوى التحقق الزماني في الأداء الشفوي، بحيث يؤطر الأول الثاني ويحدد من امتداده منظماً له في تواز هندسي تقدم معه عناصر النص في نظام متشاكل» [6] .
ويعكس فضاء القصيدة شأنه شأن إنشادها رؤية العالم والإنسان، ويكشف عن الأساس الفلسفي والفني والجمالي لتراث أمة، إن العقلية العربية ـ وبخاصة الاعتزالية منها ـ تؤمن » بوجود التمايز بين العناصر وبوجود الفوارق بينها، ترى الشيء وبجنبه الشيء الآخر، وتشهد الماهية وتوازيها الماهية الأخرى، وتعالج الذات والذات الأخرى، وتوزع العناصر والأشياء على طبقات، فهناك طبقة متقدمة وأخرى متأخرة، وتتقدم واحدة لتكون أصلاً، وتتأخر الثانية لتكون فرعاً، المهم أنّ هناك نظاما يحافظ على المسافات، ويتمسك بالوضوح والتحدد أساساً، ومن هنا جاءت عنايتهم بالتعريفات والحدود، حد الشيء، والعلم، والموضوع، ومعرفة طبائع الأشياء والذوات . أما أنْ تتقاطع الأشياء أو تتفاعل، أو أن يؤثر بعضها ببعض فهذا مالا يمكن إدراكه، أو لايمكن قبوله، لأنه يضاد الرؤية التي ترى الأشياء مستقلة، والأفكار واضحة، بل إنّ الناقد يفك تقاطعهما وتشابكهما، ويحاول دراستها مستقلة« [7].
إن هذا التصور الذي يقوم على أساس هندسي متوازن يؤكد أهمية الثوابت الفكرية السابقة التي تتحكم في تحديد التوازن المطلق بين الأشياء والتناظر بين المكونات . ومن ضمنها صياغة البيت الشعري وفضائه، ويتحدد الفضاء في ضوء مكونين جوهريين، فيما يشير إلى ذلك محمد الماكري :
» أـ التوازي، العمودي، للأبيات .
ب ـ التقابل، الأفقي، للأشطر .
هذان العنصران ينتظمان وفق شكل يجنح للاستطالة، بحيث يتم فيه رصف الوحدات المكونة أفقيا في حدود شطرين متقابلين في خط واحد، تفصل بينهما مساحة بيضاء، مشكلين نموذجاً تتولى أسفله الأبيات الأخرى موازية له عمودياً، مفسحة المجال لتواز هندسي ثالث، تنظم وفقه الأعمدة البيضاء الثلاثة الممتدة على حافات الأشطر وما بشكل عمودي، وهي فراغات بيضاء تنفتح على بعضها من الأسفل ومن الأعلى بواسطة عمودين أبيضين متوازيين أفقياً يحدان النص في البداية والنهاية « .[8]ويعرض محمد الماكري »أن القصيدة في اشتغالها الفضائي أشبه ما تكون بالباب أو البيت أو الخباء أو دورة الشمس النهارية « [9]ويستشهد لذلك بنصوص تراثية .
إن كتابة القصيدة تشتمل على القصيدة وكيفية إنشادها، لأن تقسيم البيت الشعري إلى شطرين يعني وقفة المنشد عند نهاية الصدر ليستأنف انشاد العجز، كما أن القافية تمثل مرتكزا ملائما للإنشاد، إذ تمثل وقفة طويلة يتحدد عندها انتهاء البيت، كي يبدأ المنشد موجة جديدة، أ ي بيتا لاحقا . وقد ضبطت الكتابة معيارا واحدا عاما يصدق ـ بشكل عام ـ على شعر الشطرين، على الرغم من أن الأبيات المدورة تفرض طبيعة خاصة في إنشادها، إذ يقتضي الإيقاع شق الكلمة بين شطري البيت، وتقتضي الدلالة قراءة البيت الشعري بوصفه موجة واحدة لا توقف فيها في نهاية صدره .
ولا يعني هذا أن انشاد القصيدة العربية ثابت ومحدد بقوانين، وإن كانت كتابته تدعم هذا وتؤكده، ذلك أن المنشدين يتفاوتون في كيفية انشاد القصائد، ويتفاوتون في مواطن الوقفات في حشو البيت، كما أن الإنشاد يتأثر بطبيعة الجمل ودلالاتها وتنغيمها، فقد يكون تنغيم الجمل صاعدا في الجمل الاستفهامية، وهابطا في الجمل الخبرية، وهذا ليس موجودا في النص المدون، وقد أكد رينيه ويليك أن كل» قراءة بصوت عال أو انشاد للشعر هو أداء للقصيدة وليس القصيدة ذاتها .. . (و)ان كل انشاد للقصيدة هو أكثر من القصيدة الأصلية : فكل أداء يحوي عناصر خارجة عن القصيدة كما يحوي خواص التلفظ وطبقة الصوت والتوقيت وتوزيع النبرات، وهي عناصر إما تحددها شخصية المنشد أو أنها أعراض ووسائل جاءت في تفسير القصيدة « [10]ولا يقتصر الإنشاد على الأداء الصوتي وطبيعة التنغيم فحسب، ولكنه يشمل» الإشارات والحركات وملامح وجه المتكلم، وكلها عناصر تعبيرية مساعدة في سياق الأداء الشفوي تدخل ضمن أنظمة التواصل غير اللغوية ( Non Verbal ) وتختفي حالما يتعلق الأمر بالأداء الكتابي للغة « [11].
إن القصيدة في الثقافة الشفاهية تحاول التقليل من دور الجسد، ولذلك كانت الرواية وتواتر الحفظ ملامح أساسية تعلي من شأن التشكيل اللغوي، وكأن هذا جزء من التطور العام الذي ينظر إلى الجسد بوصفه الفاني والحسي، أو مجرد كونه وسيطا أو ناقلا لا غير .
إن نظرتنا للقصيدة الحديثة ينبغي أن تفهم على أساس يماثل إلى حد ما الإنسان وجسده، لأن الإنسان ـ كما يقول دافيد لوبرتون ـ « لا يمكن فينومينولوجياً تمييزه عن لحمه . فهذا اللحم لا يمكن أن يعتبر ملكية ظرفية، أن يجسد وجوده في العالم، وبدونه لا يكون » [12]، وتأسيسا على هذا يمكن القول إن التشكيل اللغوي لا ينهض وحده في تحديد ماهية القصيدة الحديثة، وإنما يتم تحديد ذلك بتلاحم التشكيليين اللغوي والمكاني، فهما اللذان يجسدان وجود القصيدة، وبدونهما لا يمكن تحديدها .
وإذا كانت قصيدة الشطرين قد شغلت بسمترية ثابتة من جهتي التشكيليين اللغوي والمكاني فإن القصيدة الحديثة في الوقت الذي أثارت المتلقي بتلويناتها الإيقاعية الجديدة، شغلته في الوقت نفسه، بالتشكيلات المكانية بوصفها مكونا أساسيا وجوهريا فيتوصل الأبعاد الدلالية والجمالية .
وقد واجه الشاعر الحديث هذه المشكلة : القصيدة، والإنشاد، والكتابة، ففي الوقت الذي ينشد فيها شاعر قصيدته نستطيع القول إنه يقدم القصيدة متضمنة إنشادها، ويسهم الإنشاد في استكمال الأبعاد التعبيرية التي أراد الشاعر إيصالها للمتلقي، ومن ثم يمكن القول بعامة إن انشاد الشاعر قصيدته هو أقرب ما يكون إلى روح القصيدة ودلالاتها وجمالياتها، ولكننا ـ في الحقيقة ـ لا نتلقى القصائد ـ كل القصائد ـ مسجلة بأصوات مبدعيها، ومن ثم يقوم المتلقي بأداء دور الشاعر فيقرأ القصيدة فيضفي عليها من خصوصيته هو، وتنطبع القصيدة على اثر ذلك بخصائص وسمات لم تكن متوافرة في القصيدة أصلا
وإذا كان الشاعر يستخدم الإنشاد من أجل توصيل الدلالات الخفية والكامنة في القصيدة فإنه يعمد إلى استخدام خاص للكتابة للتعبير عن بعض الدلالات، مما دفعه إلى كتابة الصفحة بكيفية معينة، سواء أكان ذلك بخط يده أم طباعة، ومن الجدير بالذكر أن رينيه ويليك يرى أن» الكتابة على ورقة ليست هي القصيدة « [13]كما أن الصفحة»المطبوعة تحتوي على عناصر كثيرة خارجة عن حيز القصيدة، حجم حرف المطبعة ونوعه، حجم الصفحة وعوامل عديدة أخرى « [14] . ولذلك عني الشاعر كثيرا بكيفيات تنظيم الصفحة، وواجهته مشكلة كبرى في هذا السياق، هل يقتصر على تنظيم هذه الصفحة بما يخطه بيده، أم أنه يستغل امكانات الطباعة، « ذلك أن جملة أنساقه غير اللغوية ليست بمعزل عن الدوال اللغوية ولا عن بناه التركيبية، بل إن هذه العلامات غير اللغوية في علاقتها بجماع مكونات النص التعبيرية والتركيبية كثيرا ما تجسد منـزلة STATUT الخطاب الشعري الحديث، ونكون على صلة وثيقة بالدلالة وطرق انبناء المعنى » [15]، وهذا يعني أن القصيدة الشعرية لم تكتف بتحديد الخصائص الصوتية والإيقاعية، بل تجاوزت ذلك إلى أن تكون جسدا كاملا يسهم في اضفاء المعاني وتحديد الدلالات الجمالية .
ويلتقي الدارس لشعرنا القديم بطرائق لا تكاد تخرج عن أساس واحد يقسم الأبيات الشعرية على أساس تناظري هندسي تتقابل فيه الأقسام والمكونات وتتناظر، كما يمكن القول إن الموشحات والأزجال لم تخرج على هذا الأساس ـ في الجملة ـ ولا يخلو تراثنا الشعري، وبخاصة القريب منه، من نصوص شعرية ذات طبيعة صناعية كالمشجرات، وهذه النصوص لا تكشف عن أبعاد فنية وجمالية، لثبات صيغتها، ولأنها تعبر عن خاصية صناعية تجعل التخطيط سابقا للتنفيذ، ولقد تسربت بعض هذه الصيغ إلى شعر التفعيلة .
وفي ضوء هذا فإن البيت الشعري في قصيدة الشطرين يمثل بنية مغلقة تخضع لمعايير مثالية، وتحكمه أبعاد هندسية ثابتة صارمة، إذ للبيت طول معلوم وتفعيلات محددة معروفة وقافية صارمة، أما السطر الشعري في قصيدة التفعيلة فإنه يمثل بنية مفتوحة متموجة، لا تخضع لمعايير مثالية ثابتة سابقة، وإنما تخضع لتجربة الأديب الشعورية، ومن ثم فإن طول السطر الشعري يتناغم معها، وتفعيلاته تتكرر وتختلف بحسبها .
إن كتابة السطر الشعري ـ في قصيدة التفعيلة ـ تختلف في فضاء يميزها، ولذلك كان الجانب الأيمن من كتابته مستقراً، والجانب الأيسر متموجاً بعامة، بسبب الكتابة العربية التي تبدأ من اليمين وتنتهي باليسار، وبسبب ـ وهذا هو الجديد ـ طول الأسطر الشعرية، ولذا كان التموج يقع دائماً في الجانب الأيسر، وتختلف طبيعته وفقا لطبيعة التجربة الشعورية .
وتتحول بداية السطر الشعري هنا إلى ارتكاز إيقاعي يضارع إلى حد ما ارتكاز القافية لأنه يملي قدرا من الرتابة والثبات في بداية الإنشاد والقراءة . ولقد فطنت نازك الملائكة إلى كيفية كتابة الأسطر الشعرية وأخضعتها لقانون عروضي، ورفضت توزيع الأسطر على أساس المعنى، ولذلك ترى أن الشعر ينبغي أن يكتب و » أن يطبع بحسب وزنه وتفعيلاته، فيقف الطابع عند نهاية الشطر العروضي . وهذا القانون يسري على الشعر في العالم كله، فحيثما وجد الشعر كان وزنه هو الذي يتحكم في كتابته . إننا لا نقف بحسب مقتضيات المعاني، وإنما يقف حيث يبيح لنا العروض»[16]، ولم تتجاوز نازك ذلك إلى درس لفضاء القصيدة وإنما ألزمت الشاعر بوحدة الشطر واستقلاله ـ في قصيدة التفعيلة ـ تقليدا لوحدة البيت ـ في قصيدة الشطرين ـ، إذ تقول »كان المألوف في الشعر العربي كله أن يكون البيت تاما في حدود شطريه . وكان ذلك يحفظ للبيت عزلته ويعصم القاريء من الالتباس « [17].
2
إن كل لغة تخلق فضاءها المكاني بطريقة تتناغم مع طبيعتها، ويتجلى ذلك من تفاوت اللغات بحسب طبيعة كتابتها ونوع حروفها، فالكتابة العربية تبدأ من اليمين إلى اليسار بخلاف الكتابة الإنجليزية ـ مثلاً ـ التي تبدأ من اليسار إلى اليمين، فضلاً عن الاختلاف في حروف اللغتين، ويعمد بعض الشعراء إلى تضمين ألفاظ أو عبارات من لغات أخرى، مما يبدو أمراً غريباً في جسد القصيدة العربية، وتتبدى غرابته في القصيدة من ناحيتين : أبعاده الزمانية / الصوتية، والمكانية / الكتابية، ولقد أثار خصوم شعر التفعيلة كلاماً حول هذا التغريب، لأنه يشوه جسد القصيدة ولا يؤدي أية وظيفة معرفية أو جمالية، وقد تأثر بعض الشعراء بإليوت في تضمينه من لغات أخرى، غير أن التضمين من لغات أخرى في القصيدة العربية ليس بالضرورة عملاً جمالياً، يضفي على القصيدة سمات وخصائص ما كان لها أن تتوافر بدونها، بل قد تتحول التجربة إلى فشل في العمل الأدبي نفسه، يقول صلاح عبد الصبور :
أنتَ لما عشقت الرحيل
لم تجدْ موطنا
ياحبيب الفضاء الذي لم تجسْه قدمْ
ياعشيق البحار وخدن القممْ
يا أسير الفؤاد الملول
وغريب المنى
ياصديقي أنا
Hypoerite lecteur
Mon Semblable , mon frere
شاعر أنت والكون نثر .. [18]
إن هذا التضمين لا يعدو أن يكون تغريباً [19] في جسد القصيدة العربية، كما أنه لا يضفي أبعاداً جمالية ومعرفية على النص الشعري، غير أن نصاً شعرياً للشاعرة فدوى طوقان ييبعث على تأكيد أبعاد دلالية وجمالية في النص، فلقد استخدمت الشاعرة في جسد قصيدتها تراكيب من لغات أخرى، إنجليزية، وفرنسية، وعبرية، إضافة إلى عربية بلكنة أعجمية، نقول :
ـ ياعبلة ياسيدة الحزن خذي زهرة قلبي
الحمراء
صونيها أيتها العذراء
ـ الجند على بابي ويلاه !
ـ حتى الله تخلّى عني حتى الله
ـ خبيء رأسك !
خبيء صوتك !
وبنو عبس طعنوا ظهري
في ليلة غدرٍ ظلماء
Open the Door!
Ouvre ia porte
افتحْ إتْ هاديليت !
افتخْ باب !
ـ وبكل لغات الأرض على بابي يتلاطم
صوت الجند
ـ ياويلي ![20]
إنَّ الشاعرة تصور جنود العدو وهم يقرعون بابها، شذاذ آفاق جاءوا من أصقاع العالم ويتكلمون» بكل لغات الأرض «، ومن أجل أن توحي الشاعرة بطبيعة هؤلاء وطبيعة أصولهم المختلفة وأعراقهم المتباينة، حكت أصواتهم ولغاتهم، إنَّ هذه العبارات المختلفة بلغاتها لها دلالة واحدة، ويمثل وجودها الزماني / الصوتي، والمكاني / الكتابي تشويهاً في جسد القصيدة، وهذا التشويه له دلالته الرمزية العميقة . إن وجود هؤلاء نشاز في الواقع وجسد القصيدة معاً، لان الواقع وجسد القصيدة يعبران طبيعياً وتلقائياً عن وجود حضاري وانساني معين، وانه سيتم تشويهه إنْ تداخلت فيه عناصر أخرى غريبة غُرست فيه قهراً، ولذا يبدو التنافر واضحاً في ما هو كائن في الواقع وفي ما هو كائن في جسد القصيدة، بمعنى أنَّ الترميز الذي تشتمل عليه القصيدة يعبر عنه عبر كلا بعديها الزماني والمكاني، وأنَّ فضاء القصيدة ـ بوصفه بعداً مكانياً للقصيدة ـ ينبيء هو الآخر عن هذا الترميز . إنَّ الأسطر الشعرية المضمنة بلغات أجنبية مختلفة تمثل شكلاً غريباً تاشزاً في جسد القصيدة، وهو ليس واحداً، ولكنه متعدد ومتباين، ولذلك فانَّّ القصيدة قد استخدمت هذا التضمين ليعبر عن هذا التباين والتعدد ولنؤكد وجوده الناشز، إنَّ القصيدة ببعديها المكاني والزماني تعبر عن ترميز يمثل معادلاً موضوعياً لما يقع في الواقع .
واستكمالاً لهذا أود الإشارة إلى أنَّ بعض الشعراء يميل إلى استخدام مفردات أو تراكيب عامية أو يعمد إلى توظيف بعض المقاطع من أغانٍ شعبية، ولعل السياب أقدم من لجأ إلى ذلك في استخدامه كلمة» خطية « وهي كلمة عامية عراقية تدل على الإشفاق في قوله :
ما زلت أضرب، مُترِبَ القدمين أشعث في الدروب
تحت الشموس الأجنبية
متخافق الأطمار، أبسط بالسؤال يداً نديّه
صفراءَ من ذُلٍ وحُمىّ : ذلَّ شحاذٍ غريبِ
بين العيون الأجنبية
بين احتقار . وانتهار، وازورارٍ .. أو» خطيه «،
والموت أهون من» خطيه « . [21]
كما عمد شاعر آخر إلى توظيف مقطع من أغنية عراقية في قوله :
كتبت‘ الشعر عن وطني، وخوص نخيله حَسرهْ
وصرتُ أحسني سعفاً وبين عذوقه تمره
وأهتف خلف مشحوفٍ
ترنح في الأصيل بـــ ( خورة البصرة )
هَيْ هَيْ يا بلاّم
أحنه حيارى منام
دور البلم من صوبي
وخذني لهلي ومحبوبي [22]
(3)
ويمثل الامتلاء والفراغ ملمحاً أساسياً يَبده المتلقي أولاً، إذ بمقدار ما تمتد الأسطر الشعرية يتقلص الفراغ، وكأنَّ الامتلاء يلتهم بياض الصفحة، وكأنَّ الفراغ يحاصر سوادها، ولا يخلو هذا من دلالات تنبيء النصوص الشعرية عنها، وهذا يعني « أن البياض ليس فعلا بريئا أو عملا محايدا، أو فضاء مفروضا على النص من الخارج بقدر ما هو عمل واع ومظهر من مظاهر الإبداعية وسبب لوجود النص وحياته ... إن البياض لا يجد معناه وخيانة وامتداده الطبيعي الا في تعالقه مع السواد، إذ تفصح الصفحة بوصفها جسدا مرئيا عن لعبة البياض والسواد بوصفه إيقاعا بصريا » [23].
، ولقد بالغ ناقد في توصيف علاقة الشاعر بالامتلاء والفراغ إلى درجة جعل ذلك معبراً عن قلق واحد، وهو انعكاس مباشر أو غير مباشر عن الصراع الداخلي الذي يعانيه المبدع» إنَّ بنية المكان يشوبها قلق دائم تحدده رغبة في تحطيم التقاليد البصرية التي اعتادها القاريء فجعلت عينيه مركزتين على بنية مكانية تمنحه الاطمئنان وتدعم توازنه الداخلي الوهمي، أما الشاعر المعاصر فإنه يمتد بهذا التركيب اللامتناهي إلى دواخل القاريء لبحث خلخلة ويدفع بهذا الاطمئنان نحو الشك والدخول في متاهة القلق «[24].
وإذا كان الناقد يؤكد تصوراً سليماً في أنَّ» البيت الشعري يسير نحو نهاية معروفة عند القاريء « فإنه يجعل السطر الشعري في قصيدة التفعلية» يرحل بالقاريء ليرمي به متاهة، وكل بيت شعري هو بداية رحلة نحو المتاه الذي ليس إلا البياض، فهو يوقف الصورة حيث أراد الشاعر، ويكسر الرحلة التقليدية التي كانت غالباً تتم وتنتهي غالباً مع القياس الزماني والمكاني للبيت »[25] .
إن الفراغ لا يستقل عن مجمل البناء الكلي للقصيدة ،ذلك أنه لا يمثل وحدة مضافة للنص، أو زينة خارجية مستقلة عنه، وإنما هي جزئية جوهرية من كيانه تتفاعل مع سياقه الكلي، ومن ثم تتفاوت دلالته بحسب النصوص وسياقاتها المختلفة، ويعبر عن دلالات كامنة في الذات المبدعة لم يتمكن التشكيل اللغوي وحده من إيصالها، وبهذا يسهم الزماني والمكاني في إيصال الدلالة .
ويمكن التحدث عن :
1 ـ الفراغ الأبيض
2 ـ الفراغ المنقط
3 ـ التقطيع
أما الفراغ الأبيض فان الشاعر يعمد إلى تركه بين مجموعة من الأبيات الشعرية والتي تليها ليهدف إلى دلالات قد تعني توقف المتلقي والاستعارة بالتفاوت بين ما سلف البياض وما يلحقه، وانَّ إلغاء هذا البياض أو تغيير مواقعه يعكر الدلالة التي أراد الشاعر إيصالها، ويمكن الاستشهاد لذلك بقصيدة لأدونيس كتبت بطريقتين مختلفتين، وهي في ديوانه على النحو التالي :
يجهل‘ أنْ يتكلّم هذا الكلامْ
يجهل صوت البراري ،
إنه كاهن حجري النعاسْ
إنه مثقلٌ بالغات البعيدة .
هو ذا يتقدّم تحن الركامْ
في مناخ الحروف الجديده
مانحاً شعره للرياح الكئيبه
خشناً ساحراً كالنحاس .
إنه لغةٌ تتمّوح بين الصواري
إنه فارس الكلمات الغريبه [26]
إن ادونيس في هذا النص الشعري قد ترك فراغات بيضاء واضحة، وهي ثلاثة فراغات، يقع الأول بعد السطور الأربعة الأولى، ويقع الثاني بعد سطرين شعريين، ويقع الثالث بعد سطرين آخرين . اما الطريقة الثانية التي كتبت بها قصيدة ادونيس هذا فلقد نشرت في كتاب»البنيات الأسلوبية في لغة الشعر العربي الحديث « للدكتور مصطفى السعدني، وقد كتبت على النحو التالي[27]
يجهل أنْ يتكلم هذا الكلام
يجهل صوت البراري
أنه كاهن حجري النعاس
أنه مثقل باللغات البعيدة
هو ذا يتقدم تحت السركام
في مناخ الحروف الجديدة
مانحا شعره للرياح الكئيبة
خشنا ساحرا كالنعاس
أنه لغة تتموج بين الصواري
أنه فارس الكلمات الغريبة
إنَّ ناشر هذا الكتاب قد أساء مرتين، مرة حين جعل الأسطر الشعرية متساوية وغير متموجة كما هي في أصل الديوان، ومرة حينما ألغى الفراغات البيضاء بين أسطر القصيدة، إضافة إلى خطأ طباعي فادح أفقد التحليل الذي عرضه مصطفى السعدني أهميته وجدواه إذ لا يتبين المتلقي ذلك إلا اذا امتلك فطنة اكتشاف الخطأ الطباعي، أو بعد العودة إلى ديوان الشاعر، ويكمن هذا الخطأ في قوله : خشناً ساحراً كالنعاس، وصوابه كالنحاس، . وأحسب أنَّ فضائي النصين مختلفان، وأود التوقف عند الفراغات البيضاء التي قسمت النص إلى عدة مقاطع:
المقطع الأول : السطور 1 ـ 4
المقطع الثاني : السطران 5 ـ 6
المقطع الثالث : السطران 7 ـ 10
فالمقطع الأول ينطوي على حديث عن الآخر، والأنا مختفية، وتحضر في المقطع الثاني الأنا مع الآخر، ثم حديث عن الآخر واختفاء الأنا، وهذه الفراغات توحي بالتمايز بين هذه المقاطع من ناحية، وتدفع المتلقي إلى التوقف بعد كل مقطع من ناحية ثانية، وللتوقف له دلالته وتأثيره على السواء .
إن التشكيل المكاني ـ كما تبين ـ أضحى دالا يحيل إلى النفس وانفعالاتها، ويعبر عن حالات التوتر الإبداعي، ولذلك يتكيء الشاعر جودت القزويني على الفراغ المنقط في مواطن عديدة من قصائده الشعربة للتعبير عن حالات التوتر، وليضفي دلالات مصاحبة للنص الشعري، يقول :
يا أبناء الدنيا،
فار ( التنور ) ... وجاء ( الطوفان )
» نوح « وسفينته ...
موج ملتطم بالصخر [28]
إن الفراغ المنقط يعبر عن حالة توتر الشاعر إزاء فعلي الفوران والمجيء ،إذ بينهما فسحة من الوقت تنبيء عن صمت بين مرحلتي البدء والانتهاء، هذا إذا عرفنا أن الشاعر لا يعبر في الحقيقة إلا عن طوفان ذاته :
ما كان» لنوح « طوفان يشبه ( طوفاني )
فإنا تغرقني ( ذاتي ) [29]
وقد يعبر الفراغ المنقط عن المسكوت عنه الذي يعمد المتلقي إلى استكماله بمخيلته، يقول جودت القزويني :
وأرى نوحا مبتسما
يبحر بمركبه ...
.... .... ..
... ... ...
يتوقف ذاك الطوفان
أقول له : أبت ..
أتوسل أن تتركني وحدي ...، ...، ...،
أبحث عن نفسي ...
عن سر » الله «...
... ....
... ...
... ...
ويلوح نوح بيديه ... [30]
إن الفراغات المنقطة تصبح موحيات تؤثر في المتلقي، وتأخذ الدلالات في التوالد والتناسل ،لا من فراغ، وإنما تتأثر بطبيعة السياقات، فحين يقول الشاعر :
أتوسل أن تتركني وحدي ...، ...، ...،
فإن المتلقي يستكمل الحديث، ويسهم في خلق النص في ضرورة البقاء منفردا ومتوحدا، ومن ثم فإن السابق واللاحق يوحيان بالدلالات المرافقة، إن المتلقي ـ هنا ـ يشارك الشاعر في عملية الإبداع، ويمتلك حرية أكبر في التأمل والتأويل، تماما، كما يشارك في التجربة الشعورية من ناحية، ويشارك بفاعلية بملء الفراغات المنقطة المقصودة بوعي من الشاعر من ناحية ثانية .
أما الحذف فإنَّ الشاعر يعمد إليه لتزويد المتلقي بدلالات يتم الإيحاء بها خلال فضاء القصيدة، ويعني الحذف إزالة بعض كلمة أو كلمة أو كلام، تقول فدوى طوفان :
مددت نحوهم يديْ
ناديت في حزني وفي نحيبي
يا أخوتي لا تقتلوا حبيبي
لا تقطعوا العنق الفتي
سألتكم بالحب، بالقربى سألتكم وبالحنان ،
يا أخوتي لا تقتلوه
لا تقتلوه
لا تقـــ..... [31]
أن الحذف أسهم ـ هنا ـ في إيحاء دلالة سرعة تنفيذ القتل، وإن صراخ الشاعر توقف مع لحظتي الحذف / القتل» لا تقـــ ..... « بمعنى أنَّ فعل القتل قد تم فعلاً، ومن ثم تقاطع الحذف مع لحظة القتل .
ومن أمثلة الحذف التي تشتمل على دلالات جمالية قصيدة» نهاية « لبدر شاكر السياب، إذ قالت له فتاته «سأهواك حتى تجف الأدمع في عيني وتنهار أضلعي الواهية « إنَّ الشاعر يعمد إلى تكرار العبارة التي قالتها فتاته، ولكنه في أثناء ذلك يعمد إلى حذف بعضها، مما يغّير‘ من دلالاتها وجمالياتها، غير أنَّ هذه العبارة المكررة تأخذ في الضمور والتناقص التدريجي، وتضمر معها دلالتها الأصلية لتصل درجة النقيض، وتكتنف هذه العبارة وحالاتها المتعددة الموقف النفسي الذي يعيشه الشاعر، ويمكن تقسيم هذا إلى عدة مراحل[32]
1 ـ» سأهواك حتى .. « نداء بعيد
تلاشت ؛ على قهقهات الزمان
بقاياه . في ظلمة .. في مكان ،
إنَّ الشاعر يسترجع هذه العبارة بوصفها نداء بعيداً، تكتنفه حالة الضياع والتلاشي المفعمة بالسخرية والعتمة .
2 ـ وظل الصدى في خيالي يعيد :
» سأهواك حتى سأهوى « نواح
كما أعوت في الظلام الرياح،
» سأهواك حتى .. ســ .. « ياللصدى
ويتكيء السياب ـ هنا ـ على توظيف العبارة بوصفها صدى يتكرر، ويوظف ظاهرة الصدى التي تقتطع ـ بحسب تكررها واعادتها ـ بعضاً من العبارة، فان عبارة»سأهواك حتى سأهواك « تدل على تكرار الفعل أهوى، أي سأهواك، وأهوى غيرك أيضاً، غير أنَّ هواك سيظل قائماً ما دام الحب الثاني لما يأتي بعد . أما عبارة» سأهواك حتى .. ســ .. « فإنها تدل على ظاهرة التردد التي أوحت بها ظاهرة الصدى التي تقطّع العبارة المحكية .
3 ـ اصيخي إلى الساعة الغائبة :
» سأهواك حتى .. « بقايا رنين
تحدين دقاتها العاتيه،
تحدين حتى الغدا ،
» سأهواك « ما أكذب العاشقين !
» سأهوا .. « ـ نعم .. تصدقين .
وينتقل بهذا السياب من حالة الصدى التي تقتطع الأجزاء إلى حوار مع فتاته، او مع عبارة فتاته، وهو حوار يتأسس على الحذف، ويصدر أحكاماً في ذلك . إن هناك تناغماً بين الحذوف المتكررة في العبارة والحالة الشعورية للشاعر، أي من الوصف إلى التردد إلى الحوار الذي يحدد فيه موقفه من فتاته بشكل نهائي .
ومن الجدير بالذكر أنَّ ممدوح عدوان يتعامل بكيفية معينة مع الحذف، يقول :
حينما صحت بهم :
» لا تبدلوا بالحرب أخبار الحروب «
قيل لي :
» إنَّ لم تجد ماءً تيمم «
قلت :» مولاي تطلع نحوهم «
لم يتكلم
قلت :» مولاي أما قلت لنا : إن الجهاد ... «
قطع الحاجب بالسيف النداء
و» علي « صامت لا يتكلم
حمل الحاجب صوتي في إناء
و» علي « صامت لا يتكلم
ولذا أعطيت سيفي لابن ملجم [33]
ويشتمل هذا النص على حذف دل عليه قطع العبارة المعروفه للامام علي:» إنَّ الجهاد باب من أبواب الجنة « ولهذا الحذف المقطوع دلالته، لأنَّ سياق القصيدة ينطوي على دلالة مرافقة تتوافق فيها حالة قطع العبارة من ناحية، وقطع رقبة الشاعر الذي يكررها، من ناحية أخرى، وكأن الشاعر يعبر من خلال الحذف ـ زمانياً ومكانياً ـ عن محاكاة لحظة القطع التي أدّاها السيّاف، وهي تتناغم تماماً مع قطع العبارة نفسها .
إنَّ الحذف ـ هنا ـ أدى دلالات فنية وجمالية، أضفت على النص دلالات مصاحبة ما كان للنص أن يعبر عنها إلا بهذه الكيفية من الحذف .
ومن أمثلة الحذف المبكرة في قصيدة» الوصية « لبدر شاكر السياب، حيث يقول :
إقبال، يازوجتي الحبيبه
لا تعذليني ما المنايا بيدي
ولست‘، ولو نجوت‘، بالمخلّدِ .
كوني لغيلان رضى وطيبه
كوني له أباً وأماً وارحمي نحيبه
وعلميه أنْ يذيلَ الَقلبَ لليتيم والفقير
وعلميه ...
ظلمة النعاس
أهدابها تمس من عيوني الغريبة [34]
أي أنَّ السياب لم يكمل وصيته، صحيح ان سياق النص يجعل المتلقي يستكمل هذه الوصية، بمعنى انَّ أثر الحذف الدلالي والجمالي عميق الأثر في المتلقي، وكأنه يسهم في ابداع النص ويستكمل بعض مكوناته .
وإذا كان الحذف يعني أن الشاعر يحذف بعض كلمة أو عبارة، ليدل بذلك على معنى مصاحب إيقاعيا ومكانيا، فإن التقطيع أو التشذير » تمزيق لأوصال الكلمة أو العبارة أو الصورة، وتفكيك لوحدتها الواحدة، بحيث تبدو كل جزئية منها ذات كيان مستقل معزول عن نظيره، رغم اتصاله السياقي به « [35]
ويتجلى التقطيع جليا في قصيدة « الصدى والكلمات » للشاعر جودت القزويني، إذ يعمد إلى تقطيع الكلمة للإيحاء بدلالات مصاحبة تؤكد الصدى ـ ماديا ونفسيا ـ الذي يعبر عنه الشاعر، وتتبدى ملامح التوتر الدرامي القائم على جمل فعلية متلاحقة :
أمشي ...
تبحر ساقي ..
يضحك مني الظل
تتنـزى فوق جبيني أفكار العتمة [36]
وتتجلى ملامح التصدية وتقطيع الكلمات كي تتناغم مع طبيعة التوتر الدرامي :
وأصرخ .. يآ .. نجمَ .. ة .. الأمسـ سِ
إني أصفِّقُ .. أُصَ .. فْ .. فِ .. ق .. و ..
تعالي فقدضاع صوتي [37]
ويصل الأمر ذروته في حالة تتماثل فيها تشظية الكلمة مع تشظي الصدى، وتشظية العالم الداخلي للشاعر ،يقول جودت القزويني :
وعاد الصدى
الصدى .. صدا .. صدا .. دآ .. دآ ,, دآ .. آ آ آ آ آ آ آ آ آ آ آ آ آ آآآ آ آ آ آ آ آ
لقد ذبل العمر
واحترقت نجمتي في السماء !
إن تشظية الصدى ـ هنا ـ تعبير يتوافق فيه التشكيل الإيقاعي والمكاني للكلمات، حتى تتلاشى صوتيا وكتابيا، تماما، كما يتلاشى عمر الشاعر في الذبول والضمور، وتحترق نجمته ي السماء !
ومثل هذا ما كتبه سعدي يوسف عن مدينة الكوفة التي يغادرها :
لكن القرن الأول لم يعد الأول
ها نحن أولاء نغادرها
م
ش
ن
و
ق
ي
ن
على ماسورات مدافع دبابات .. [38]
إذ يوحي تناثر الكلمة وتشظيها بتساقط المشنوقين وتتابعهم، وبتكرار فعل التشظية، تماما كما تتساقط خرزات المسبحة، كما أن هذه الكلمة تتدلى « رأسيا كحبل المشنقة تماما»[39].
مصادر البحث ومراجعه :
أدونيس، الآثار الكاملة، دار العودة ، بيروت ، 1971 .
بدر شاكر السياب، ديوانه ، دار العودة ، بيروت ، 1971 .
جودت القزويني، المجموعة الشعرية الأولى، بيروت ، 1998 .
دافيد لوبتون، انتروبولجيا الجسد والحداثة، ترجمة محمد عرب صاصيلا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت ،1993 .
رضا بن حميد، الخطاب الشعري الحديث من اللغوي إلى التشكيل البصري، مجلة فصول، العدد : 2 صيف 1996.
صلاح عبد الصبور، أحلام الفارس القديم، دار الشروق ، بيروت ، 1986 .
عبد العزيز المقالح ، الشعر بين الرؤيا والتشكيل ، دار العودة بيروت ، 1981 .
قدوى طوقان، الأعمال الشعرية الكاملة، المؤسسة العربية للنشر ، بيروت ، 1993 .
كريم الوائلي، الخطاب النقدي عند المعتزلة، مصر العربية للنشر ، القاهرة، 1997 .
محمد بنيس ، ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب، مقاربة بنيوية، دار العودة ، بيروت ، 1991 .
محمد تقي جمال الدين، نوارس الشجن، دار بغداد للطباعة ، كوبنهاكن ، 1991 .
محمد الماكري ، الشكل والخطاب ، مدخل لتحليل ظاهراتي ، المركز الثقافي ، بيروت ، 1991 .
مصطفى السعدني، البنيات الاسلوبية في لغة الشعر العربي الحديث ، منشأة المعارف ، الاسكندرية ، د.ت .
مصطفى السعدني، التغريب في الشعر العربي المعاصر، منشأة المعارف ، الاسكندرية ، د.ت .
نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، دار العلم للملايين ، بيروت ، 1983 م.
نقلا عن رجاء عيد، لغة الشعر قراءة في الشعر العربي الحديث ، منشأة المعارف ، الاسكندرية ، د.ت
وليد منير، التجريب في القصيدة المعاصرة، مجلة فصول، العدد الأول، صيف 1997 ص 181
ويليك » رينيه « بالاشتراك مع » اوستن وارين « : نظرية الأدب ، ترجمة محي الدين صبحي ، مراجعة حسام الخطيب ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 1981
يوري لوتمان، تحليل النص الأدبي ،ترجمة محمد أحمد فتوح، دار المعارف، مصر، 1995.
[1] يوري لوتمان، تحليل النص الأدبي ،ترجمة محمد أحمد فتوح، دار المعارف، مصر، 1995، ص 27
[2] نفسه، ص 109 .
[3] عبد العزيز المقالح ، الشعر بين الرؤيا والتشكيل ،ص 111 .
[4] نفسه.
[5] نفسه ، ص 114 .
[6] محمد الماكري، الشكل والخطاب ص137 .
[7] كريم الوائلي، الخطاب النقدي عند المعتزلة، ص 120 .
[8] نفسه .
[9] نفسه، ص 139 .
[10] رينيه ويليك، نظرية الأدب، ص 151 152 .
[11] محمد الماكري، الشكل والخطاب، ص 133 .
[12]دافيد لوبتون، انتروبولجيا الجسد والحداثة، ترجمة محمد عرب صاصيلا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت ،1993، ص 151 .
[13] رينيه ويليك، نظرية الأدب، ص 150 .
[14] نفسه .
[15] رضا بن حميد، الخطاب الشعري الحديث من اللغوي إلى التشكيل البصري، مجلة فصول، العدد : 2 صيف 1996، ص 99 .
[16] نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، ص 162 163 .
[17] نفسه، ص 166.
[18] صلاح عبد الصبور، أحلام الفارس القديم، ص 35 .
[19] مصطفى السعدني، التغريب في الشعر العربي المعاصر، ص 35 .
[20] فدوى طوقان، الأعمال الشعرية الكاملة، ص 352 453 .
[21] بدر شاكر السياب، ديوانه ،ص 321 .
[22] محمد تقي جمال الدين، نوارس الشجن، ص 28 29 .
[23] رضا بن حميد، الخطاب الشعري الحديث ... ص 100 .
[24] محمد بنيس ، ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب، ص 101 .
[25] نفسه، ص 102 .
[26] أدونيس، الآثار الكاملة، 1 /341 .
[27] مصطفى السعدني، البنيات الاسلوبية في لغة الشعر العربي الحديث ،ص 19 .
[28]جودت القزويني، المجموعة الشعرية الأولى، 1998، ص 200 .
[29]نفسه، 201 .
[30] نفسه، ص 200 .
[31] قدوى طوقان، الأعمال الشعرية الكاملة، ص 463 .
[32] بدر شاكر السياب، ديوانه، ص 89 90 .
[33] نقلا عن رجاء عيد، لغة الشعر قراءة في الشعر العربي الحديث ن ص 230 .
[34] بدر شاكر السياب، ديوانه، ص 221 222 .
[35] وليد منير، التجريب في القصيدة المعاصرة، مجلة فصول، العدد الأول، صيف 1997 ص 181
[36] جودت القزويني، المجموعة الشعرية الأولى، ص272 .
[37] نقسه، ص 273 ـ 274 .
[38] نفسه .
[39] نفسه .
في القصيدة العربية الحديثة
كان من إسهامات النقد الرومانسي التأكيد على الوحدة العضوية للنص الأدبي، غير أن هذه الوحدة لم يتأت لها الفهم الدقيق إلا مع الدراسات البنيوية اللاحقة التي تنظر إلى النص الأدبي بوصفه كلاً عضوياً متكاملاً، بمعنى أن تلقيه لا يتم « كحاصل جمع آلي للعناصر التي تؤلفه، بل إن تفتيت هذه العناصر كل على حدة يترتب عليه فقدان قوام العمل بأكمله، فكل عنصر لا يتحقق له وجوده إلا في علاقته ببقية العناصر، ثم في علاقته بالكل البنائي للنص الأدبي » [1]وتتجه العناية في هذه الحالة إلى مكونات التشكيل اللغوي لأنها القادرة على تحديد الوجود الموضوعي للنص الأدبي، وبذلك يعنى بإيقاع القصيدة وصورها بوصفهما ذائبين معا في إطار كلية النص وعضويته على السواء .
وأخذ الشكل الكتابي يلفت الأنظار إليه بوصفه عنصراً دالاً مندغماً في كلية النص، ولعل النظرة العاجلة على نصين مكتوبين تدفع إلى القول إن هذا شعر، وهذا ليس شعراً، من مجرد معرفة الطريقة المألوفة لكتابة الشعر . ويقتضي الشعر ضروباً من العناية بالتشكيل الكتابي، بل ويرافق ذلك خطوط ورسوم أحيانا .
ولست في سياق التعرض لترقيم المقطوعات ـ مثلا ـ لأنها تمثل تشكيلا مألوفا له دلالته ،لأنه « من المستبعد أن يكون الشكل الكتابي، وهو أحد مظاهر النص اللغوي محايداً في موقفه في بنية النص، وإن كانت قيمة النظام الخطي في ذلك النص أقل جوهرية ـ بالطبع ـ مما هي في نظيره اللفظي ـ أي الشعري ـ » [2].
ولقد تعرض الدارسون إلى الحديث عن جسد القصيدة مرة أو فضائها أو تشكيلها المكاني مرة أخرى، وكلها تعبر عن » الحيز المكاني الذي تأخذه الكلمات، أو الحيز المكاني الذي تأخذه البحور في الصفحة أو في مساحة أو أرضية تعد لذلك « [3]، بمعنى أن الشاعر يشرع في انتهاك بياض القصيدة بالكلمات، وتلتقي عين المتلقي بامتلاء وفراغ، تلتهم فيه الكتابة بياض الصفحة، ويحاصر البياض الكتابة، أو تتراجع عنه .
ويلتزم نظام الشطرين سمترية بصرية واحدة متكررة، وهي سمترية ثابتة، على الرغم من ان مساحة الامتلاء تتفاوت بحسب طبيعة الأوزان، إن كانت طويلة أو قصيرة، »فالتشكيل المكاني في قصيدة من بحر الطويل أو البسيط لا بد أن تحتل في الورق أو الحجر أو الخشب مساحة أكبر من تلك التي يحتلها التشكيل المكاني لقصيدة من بحر الكامل والسريع، ناهيك عن اختلاف التشكيل المكاني الناشئ بين هذه البحور ومجزوءاتها« [4]، وتنجم هذه السمترية البصرية عن توزيع الأبيات الشعرية بطريقة طابقية على حد تعبير بلند الحيدري، أي أن هناك فراغا يقع أعلى القصيدة وأسفلها، وعلى جناحي الصدر والعجز وهناك » نهر من الفراغ أو البياض « فيما بينهما، كما يقول عبد العزيز المقالح[5].
وليس خافياً ان الثقافة العربية ـ والشعر أبرز مكوناتها ـ بدأت شفويةً، ومن ثم جاء تدوينها في مراحل لاحقة لزمن الإنشاد، وينبئ الفضاء عن كيفية الإنشاد، ويحدد طبيعة الوقفات من ناحية، ويحدد ايضاً موجات الأبيات بشكلها التراكبي التي تتعاقب فيه الواحدة تلو الأخرى من ناحية أخرى ـ وهذا ما دفع دارساً إلى القول إن » التوازي والتقابل المتعدد الأبعاد فضائياً، يوازيان آلياً توازياً وتقابلاً آخرين على مستوى التحقق الزماني في الأداء الشفوي، بحيث يؤطر الأول الثاني ويحدد من امتداده منظماً له في تواز هندسي تقدم معه عناصر النص في نظام متشاكل» [6] .
ويعكس فضاء القصيدة شأنه شأن إنشادها رؤية العالم والإنسان، ويكشف عن الأساس الفلسفي والفني والجمالي لتراث أمة، إن العقلية العربية ـ وبخاصة الاعتزالية منها ـ تؤمن » بوجود التمايز بين العناصر وبوجود الفوارق بينها، ترى الشيء وبجنبه الشيء الآخر، وتشهد الماهية وتوازيها الماهية الأخرى، وتعالج الذات والذات الأخرى، وتوزع العناصر والأشياء على طبقات، فهناك طبقة متقدمة وأخرى متأخرة، وتتقدم واحدة لتكون أصلاً، وتتأخر الثانية لتكون فرعاً، المهم أنّ هناك نظاما يحافظ على المسافات، ويتمسك بالوضوح والتحدد أساساً، ومن هنا جاءت عنايتهم بالتعريفات والحدود، حد الشيء، والعلم، والموضوع، ومعرفة طبائع الأشياء والذوات . أما أنْ تتقاطع الأشياء أو تتفاعل، أو أن يؤثر بعضها ببعض فهذا مالا يمكن إدراكه، أو لايمكن قبوله، لأنه يضاد الرؤية التي ترى الأشياء مستقلة، والأفكار واضحة، بل إنّ الناقد يفك تقاطعهما وتشابكهما، ويحاول دراستها مستقلة« [7].
إن هذا التصور الذي يقوم على أساس هندسي متوازن يؤكد أهمية الثوابت الفكرية السابقة التي تتحكم في تحديد التوازن المطلق بين الأشياء والتناظر بين المكونات . ومن ضمنها صياغة البيت الشعري وفضائه، ويتحدد الفضاء في ضوء مكونين جوهريين، فيما يشير إلى ذلك محمد الماكري :
» أـ التوازي، العمودي، للأبيات .
ب ـ التقابل، الأفقي، للأشطر .
هذان العنصران ينتظمان وفق شكل يجنح للاستطالة، بحيث يتم فيه رصف الوحدات المكونة أفقيا في حدود شطرين متقابلين في خط واحد، تفصل بينهما مساحة بيضاء، مشكلين نموذجاً تتولى أسفله الأبيات الأخرى موازية له عمودياً، مفسحة المجال لتواز هندسي ثالث، تنظم وفقه الأعمدة البيضاء الثلاثة الممتدة على حافات الأشطر وما بشكل عمودي، وهي فراغات بيضاء تنفتح على بعضها من الأسفل ومن الأعلى بواسطة عمودين أبيضين متوازيين أفقياً يحدان النص في البداية والنهاية « .[8]ويعرض محمد الماكري »أن القصيدة في اشتغالها الفضائي أشبه ما تكون بالباب أو البيت أو الخباء أو دورة الشمس النهارية « [9]ويستشهد لذلك بنصوص تراثية .
إن كتابة القصيدة تشتمل على القصيدة وكيفية إنشادها، لأن تقسيم البيت الشعري إلى شطرين يعني وقفة المنشد عند نهاية الصدر ليستأنف انشاد العجز، كما أن القافية تمثل مرتكزا ملائما للإنشاد، إذ تمثل وقفة طويلة يتحدد عندها انتهاء البيت، كي يبدأ المنشد موجة جديدة، أ ي بيتا لاحقا . وقد ضبطت الكتابة معيارا واحدا عاما يصدق ـ بشكل عام ـ على شعر الشطرين، على الرغم من أن الأبيات المدورة تفرض طبيعة خاصة في إنشادها، إذ يقتضي الإيقاع شق الكلمة بين شطري البيت، وتقتضي الدلالة قراءة البيت الشعري بوصفه موجة واحدة لا توقف فيها في نهاية صدره .
ولا يعني هذا أن انشاد القصيدة العربية ثابت ومحدد بقوانين، وإن كانت كتابته تدعم هذا وتؤكده، ذلك أن المنشدين يتفاوتون في كيفية انشاد القصائد، ويتفاوتون في مواطن الوقفات في حشو البيت، كما أن الإنشاد يتأثر بطبيعة الجمل ودلالاتها وتنغيمها، فقد يكون تنغيم الجمل صاعدا في الجمل الاستفهامية، وهابطا في الجمل الخبرية، وهذا ليس موجودا في النص المدون، وقد أكد رينيه ويليك أن كل» قراءة بصوت عال أو انشاد للشعر هو أداء للقصيدة وليس القصيدة ذاتها .. . (و)ان كل انشاد للقصيدة هو أكثر من القصيدة الأصلية : فكل أداء يحوي عناصر خارجة عن القصيدة كما يحوي خواص التلفظ وطبقة الصوت والتوقيت وتوزيع النبرات، وهي عناصر إما تحددها شخصية المنشد أو أنها أعراض ووسائل جاءت في تفسير القصيدة « [10]ولا يقتصر الإنشاد على الأداء الصوتي وطبيعة التنغيم فحسب، ولكنه يشمل» الإشارات والحركات وملامح وجه المتكلم، وكلها عناصر تعبيرية مساعدة في سياق الأداء الشفوي تدخل ضمن أنظمة التواصل غير اللغوية ( Non Verbal ) وتختفي حالما يتعلق الأمر بالأداء الكتابي للغة « [11].
إن القصيدة في الثقافة الشفاهية تحاول التقليل من دور الجسد، ولذلك كانت الرواية وتواتر الحفظ ملامح أساسية تعلي من شأن التشكيل اللغوي، وكأن هذا جزء من التطور العام الذي ينظر إلى الجسد بوصفه الفاني والحسي، أو مجرد كونه وسيطا أو ناقلا لا غير .
إن نظرتنا للقصيدة الحديثة ينبغي أن تفهم على أساس يماثل إلى حد ما الإنسان وجسده، لأن الإنسان ـ كما يقول دافيد لوبرتون ـ « لا يمكن فينومينولوجياً تمييزه عن لحمه . فهذا اللحم لا يمكن أن يعتبر ملكية ظرفية، أن يجسد وجوده في العالم، وبدونه لا يكون » [12]، وتأسيسا على هذا يمكن القول إن التشكيل اللغوي لا ينهض وحده في تحديد ماهية القصيدة الحديثة، وإنما يتم تحديد ذلك بتلاحم التشكيليين اللغوي والمكاني، فهما اللذان يجسدان وجود القصيدة، وبدونهما لا يمكن تحديدها .
وإذا كانت قصيدة الشطرين قد شغلت بسمترية ثابتة من جهتي التشكيليين اللغوي والمكاني فإن القصيدة الحديثة في الوقت الذي أثارت المتلقي بتلويناتها الإيقاعية الجديدة، شغلته في الوقت نفسه، بالتشكيلات المكانية بوصفها مكونا أساسيا وجوهريا فيتوصل الأبعاد الدلالية والجمالية .
وقد واجه الشاعر الحديث هذه المشكلة : القصيدة، والإنشاد، والكتابة، ففي الوقت الذي ينشد فيها شاعر قصيدته نستطيع القول إنه يقدم القصيدة متضمنة إنشادها، ويسهم الإنشاد في استكمال الأبعاد التعبيرية التي أراد الشاعر إيصالها للمتلقي، ومن ثم يمكن القول بعامة إن انشاد الشاعر قصيدته هو أقرب ما يكون إلى روح القصيدة ودلالاتها وجمالياتها، ولكننا ـ في الحقيقة ـ لا نتلقى القصائد ـ كل القصائد ـ مسجلة بأصوات مبدعيها، ومن ثم يقوم المتلقي بأداء دور الشاعر فيقرأ القصيدة فيضفي عليها من خصوصيته هو، وتنطبع القصيدة على اثر ذلك بخصائص وسمات لم تكن متوافرة في القصيدة أصلا
وإذا كان الشاعر يستخدم الإنشاد من أجل توصيل الدلالات الخفية والكامنة في القصيدة فإنه يعمد إلى استخدام خاص للكتابة للتعبير عن بعض الدلالات، مما دفعه إلى كتابة الصفحة بكيفية معينة، سواء أكان ذلك بخط يده أم طباعة، ومن الجدير بالذكر أن رينيه ويليك يرى أن» الكتابة على ورقة ليست هي القصيدة « [13]كما أن الصفحة»المطبوعة تحتوي على عناصر كثيرة خارجة عن حيز القصيدة، حجم حرف المطبعة ونوعه، حجم الصفحة وعوامل عديدة أخرى « [14] . ولذلك عني الشاعر كثيرا بكيفيات تنظيم الصفحة، وواجهته مشكلة كبرى في هذا السياق، هل يقتصر على تنظيم هذه الصفحة بما يخطه بيده، أم أنه يستغل امكانات الطباعة، « ذلك أن جملة أنساقه غير اللغوية ليست بمعزل عن الدوال اللغوية ولا عن بناه التركيبية، بل إن هذه العلامات غير اللغوية في علاقتها بجماع مكونات النص التعبيرية والتركيبية كثيرا ما تجسد منـزلة STATUT الخطاب الشعري الحديث، ونكون على صلة وثيقة بالدلالة وطرق انبناء المعنى » [15]، وهذا يعني أن القصيدة الشعرية لم تكتف بتحديد الخصائص الصوتية والإيقاعية، بل تجاوزت ذلك إلى أن تكون جسدا كاملا يسهم في اضفاء المعاني وتحديد الدلالات الجمالية .
ويلتقي الدارس لشعرنا القديم بطرائق لا تكاد تخرج عن أساس واحد يقسم الأبيات الشعرية على أساس تناظري هندسي تتقابل فيه الأقسام والمكونات وتتناظر، كما يمكن القول إن الموشحات والأزجال لم تخرج على هذا الأساس ـ في الجملة ـ ولا يخلو تراثنا الشعري، وبخاصة القريب منه، من نصوص شعرية ذات طبيعة صناعية كالمشجرات، وهذه النصوص لا تكشف عن أبعاد فنية وجمالية، لثبات صيغتها، ولأنها تعبر عن خاصية صناعية تجعل التخطيط سابقا للتنفيذ، ولقد تسربت بعض هذه الصيغ إلى شعر التفعيلة .
وفي ضوء هذا فإن البيت الشعري في قصيدة الشطرين يمثل بنية مغلقة تخضع لمعايير مثالية، وتحكمه أبعاد هندسية ثابتة صارمة، إذ للبيت طول معلوم وتفعيلات محددة معروفة وقافية صارمة، أما السطر الشعري في قصيدة التفعيلة فإنه يمثل بنية مفتوحة متموجة، لا تخضع لمعايير مثالية ثابتة سابقة، وإنما تخضع لتجربة الأديب الشعورية، ومن ثم فإن طول السطر الشعري يتناغم معها، وتفعيلاته تتكرر وتختلف بحسبها .
إن كتابة السطر الشعري ـ في قصيدة التفعيلة ـ تختلف في فضاء يميزها، ولذلك كان الجانب الأيمن من كتابته مستقراً، والجانب الأيسر متموجاً بعامة، بسبب الكتابة العربية التي تبدأ من اليمين وتنتهي باليسار، وبسبب ـ وهذا هو الجديد ـ طول الأسطر الشعرية، ولذا كان التموج يقع دائماً في الجانب الأيسر، وتختلف طبيعته وفقا لطبيعة التجربة الشعورية .
وتتحول بداية السطر الشعري هنا إلى ارتكاز إيقاعي يضارع إلى حد ما ارتكاز القافية لأنه يملي قدرا من الرتابة والثبات في بداية الإنشاد والقراءة . ولقد فطنت نازك الملائكة إلى كيفية كتابة الأسطر الشعرية وأخضعتها لقانون عروضي، ورفضت توزيع الأسطر على أساس المعنى، ولذلك ترى أن الشعر ينبغي أن يكتب و » أن يطبع بحسب وزنه وتفعيلاته، فيقف الطابع عند نهاية الشطر العروضي . وهذا القانون يسري على الشعر في العالم كله، فحيثما وجد الشعر كان وزنه هو الذي يتحكم في كتابته . إننا لا نقف بحسب مقتضيات المعاني، وإنما يقف حيث يبيح لنا العروض»[16]، ولم تتجاوز نازك ذلك إلى درس لفضاء القصيدة وإنما ألزمت الشاعر بوحدة الشطر واستقلاله ـ في قصيدة التفعيلة ـ تقليدا لوحدة البيت ـ في قصيدة الشطرين ـ، إذ تقول »كان المألوف في الشعر العربي كله أن يكون البيت تاما في حدود شطريه . وكان ذلك يحفظ للبيت عزلته ويعصم القاريء من الالتباس « [17].
2
إن كل لغة تخلق فضاءها المكاني بطريقة تتناغم مع طبيعتها، ويتجلى ذلك من تفاوت اللغات بحسب طبيعة كتابتها ونوع حروفها، فالكتابة العربية تبدأ من اليمين إلى اليسار بخلاف الكتابة الإنجليزية ـ مثلاً ـ التي تبدأ من اليسار إلى اليمين، فضلاً عن الاختلاف في حروف اللغتين، ويعمد بعض الشعراء إلى تضمين ألفاظ أو عبارات من لغات أخرى، مما يبدو أمراً غريباً في جسد القصيدة العربية، وتتبدى غرابته في القصيدة من ناحيتين : أبعاده الزمانية / الصوتية، والمكانية / الكتابية، ولقد أثار خصوم شعر التفعيلة كلاماً حول هذا التغريب، لأنه يشوه جسد القصيدة ولا يؤدي أية وظيفة معرفية أو جمالية، وقد تأثر بعض الشعراء بإليوت في تضمينه من لغات أخرى، غير أن التضمين من لغات أخرى في القصيدة العربية ليس بالضرورة عملاً جمالياً، يضفي على القصيدة سمات وخصائص ما كان لها أن تتوافر بدونها، بل قد تتحول التجربة إلى فشل في العمل الأدبي نفسه، يقول صلاح عبد الصبور :
أنتَ لما عشقت الرحيل
لم تجدْ موطنا
ياحبيب الفضاء الذي لم تجسْه قدمْ
ياعشيق البحار وخدن القممْ
يا أسير الفؤاد الملول
وغريب المنى
ياصديقي أنا
Hypoerite lecteur
Mon Semblable , mon frere
شاعر أنت والكون نثر .. [18]
إن هذا التضمين لا يعدو أن يكون تغريباً [19] في جسد القصيدة العربية، كما أنه لا يضفي أبعاداً جمالية ومعرفية على النص الشعري، غير أن نصاً شعرياً للشاعرة فدوى طوقان ييبعث على تأكيد أبعاد دلالية وجمالية في النص، فلقد استخدمت الشاعرة في جسد قصيدتها تراكيب من لغات أخرى، إنجليزية، وفرنسية، وعبرية، إضافة إلى عربية بلكنة أعجمية، نقول :
ـ ياعبلة ياسيدة الحزن خذي زهرة قلبي
الحمراء
صونيها أيتها العذراء
ـ الجند على بابي ويلاه !
ـ حتى الله تخلّى عني حتى الله
ـ خبيء رأسك !
خبيء صوتك !
وبنو عبس طعنوا ظهري
في ليلة غدرٍ ظلماء
Open the Door!
Ouvre ia porte
افتحْ إتْ هاديليت !
افتخْ باب !
ـ وبكل لغات الأرض على بابي يتلاطم
صوت الجند
ـ ياويلي ![20]
إنَّ الشاعرة تصور جنود العدو وهم يقرعون بابها، شذاذ آفاق جاءوا من أصقاع العالم ويتكلمون» بكل لغات الأرض «، ومن أجل أن توحي الشاعرة بطبيعة هؤلاء وطبيعة أصولهم المختلفة وأعراقهم المتباينة، حكت أصواتهم ولغاتهم، إنَّ هذه العبارات المختلفة بلغاتها لها دلالة واحدة، ويمثل وجودها الزماني / الصوتي، والمكاني / الكتابي تشويهاً في جسد القصيدة، وهذا التشويه له دلالته الرمزية العميقة . إن وجود هؤلاء نشاز في الواقع وجسد القصيدة معاً، لان الواقع وجسد القصيدة يعبران طبيعياً وتلقائياً عن وجود حضاري وانساني معين، وانه سيتم تشويهه إنْ تداخلت فيه عناصر أخرى غريبة غُرست فيه قهراً، ولذا يبدو التنافر واضحاً في ما هو كائن في الواقع وفي ما هو كائن في جسد القصيدة، بمعنى أنَّ الترميز الذي تشتمل عليه القصيدة يعبر عنه عبر كلا بعديها الزماني والمكاني، وأنَّ فضاء القصيدة ـ بوصفه بعداً مكانياً للقصيدة ـ ينبيء هو الآخر عن هذا الترميز . إنَّ الأسطر الشعرية المضمنة بلغات أجنبية مختلفة تمثل شكلاً غريباً تاشزاً في جسد القصيدة، وهو ليس واحداً، ولكنه متعدد ومتباين، ولذلك فانَّّ القصيدة قد استخدمت هذا التضمين ليعبر عن هذا التباين والتعدد ولنؤكد وجوده الناشز، إنَّ القصيدة ببعديها المكاني والزماني تعبر عن ترميز يمثل معادلاً موضوعياً لما يقع في الواقع .
واستكمالاً لهذا أود الإشارة إلى أنَّ بعض الشعراء يميل إلى استخدام مفردات أو تراكيب عامية أو يعمد إلى توظيف بعض المقاطع من أغانٍ شعبية، ولعل السياب أقدم من لجأ إلى ذلك في استخدامه كلمة» خطية « وهي كلمة عامية عراقية تدل على الإشفاق في قوله :
ما زلت أضرب، مُترِبَ القدمين أشعث في الدروب
تحت الشموس الأجنبية
متخافق الأطمار، أبسط بالسؤال يداً نديّه
صفراءَ من ذُلٍ وحُمىّ : ذلَّ شحاذٍ غريبِ
بين العيون الأجنبية
بين احتقار . وانتهار، وازورارٍ .. أو» خطيه «،
والموت أهون من» خطيه « . [21]
كما عمد شاعر آخر إلى توظيف مقطع من أغنية عراقية في قوله :
كتبت‘ الشعر عن وطني، وخوص نخيله حَسرهْ
وصرتُ أحسني سعفاً وبين عذوقه تمره
وأهتف خلف مشحوفٍ
ترنح في الأصيل بـــ ( خورة البصرة )
هَيْ هَيْ يا بلاّم
أحنه حيارى منام
دور البلم من صوبي
وخذني لهلي ومحبوبي [22]
(3)
ويمثل الامتلاء والفراغ ملمحاً أساسياً يَبده المتلقي أولاً، إذ بمقدار ما تمتد الأسطر الشعرية يتقلص الفراغ، وكأنَّ الامتلاء يلتهم بياض الصفحة، وكأنَّ الفراغ يحاصر سوادها، ولا يخلو هذا من دلالات تنبيء النصوص الشعرية عنها، وهذا يعني « أن البياض ليس فعلا بريئا أو عملا محايدا، أو فضاء مفروضا على النص من الخارج بقدر ما هو عمل واع ومظهر من مظاهر الإبداعية وسبب لوجود النص وحياته ... إن البياض لا يجد معناه وخيانة وامتداده الطبيعي الا في تعالقه مع السواد، إذ تفصح الصفحة بوصفها جسدا مرئيا عن لعبة البياض والسواد بوصفه إيقاعا بصريا » [23].
، ولقد بالغ ناقد في توصيف علاقة الشاعر بالامتلاء والفراغ إلى درجة جعل ذلك معبراً عن قلق واحد، وهو انعكاس مباشر أو غير مباشر عن الصراع الداخلي الذي يعانيه المبدع» إنَّ بنية المكان يشوبها قلق دائم تحدده رغبة في تحطيم التقاليد البصرية التي اعتادها القاريء فجعلت عينيه مركزتين على بنية مكانية تمنحه الاطمئنان وتدعم توازنه الداخلي الوهمي، أما الشاعر المعاصر فإنه يمتد بهذا التركيب اللامتناهي إلى دواخل القاريء لبحث خلخلة ويدفع بهذا الاطمئنان نحو الشك والدخول في متاهة القلق «[24].
وإذا كان الناقد يؤكد تصوراً سليماً في أنَّ» البيت الشعري يسير نحو نهاية معروفة عند القاريء « فإنه يجعل السطر الشعري في قصيدة التفعلية» يرحل بالقاريء ليرمي به متاهة، وكل بيت شعري هو بداية رحلة نحو المتاه الذي ليس إلا البياض، فهو يوقف الصورة حيث أراد الشاعر، ويكسر الرحلة التقليدية التي كانت غالباً تتم وتنتهي غالباً مع القياس الزماني والمكاني للبيت »[25] .
إن الفراغ لا يستقل عن مجمل البناء الكلي للقصيدة ،ذلك أنه لا يمثل وحدة مضافة للنص، أو زينة خارجية مستقلة عنه، وإنما هي جزئية جوهرية من كيانه تتفاعل مع سياقه الكلي، ومن ثم تتفاوت دلالته بحسب النصوص وسياقاتها المختلفة، ويعبر عن دلالات كامنة في الذات المبدعة لم يتمكن التشكيل اللغوي وحده من إيصالها، وبهذا يسهم الزماني والمكاني في إيصال الدلالة .
ويمكن التحدث عن :
1 ـ الفراغ الأبيض
2 ـ الفراغ المنقط
3 ـ التقطيع
أما الفراغ الأبيض فان الشاعر يعمد إلى تركه بين مجموعة من الأبيات الشعرية والتي تليها ليهدف إلى دلالات قد تعني توقف المتلقي والاستعارة بالتفاوت بين ما سلف البياض وما يلحقه، وانَّ إلغاء هذا البياض أو تغيير مواقعه يعكر الدلالة التي أراد الشاعر إيصالها، ويمكن الاستشهاد لذلك بقصيدة لأدونيس كتبت بطريقتين مختلفتين، وهي في ديوانه على النحو التالي :
يجهل‘ أنْ يتكلّم هذا الكلامْ
يجهل صوت البراري ،
إنه كاهن حجري النعاسْ
إنه مثقلٌ بالغات البعيدة .
هو ذا يتقدّم تحن الركامْ
في مناخ الحروف الجديده
مانحاً شعره للرياح الكئيبه
خشناً ساحراً كالنحاس .
إنه لغةٌ تتمّوح بين الصواري
إنه فارس الكلمات الغريبه [26]
إن ادونيس في هذا النص الشعري قد ترك فراغات بيضاء واضحة، وهي ثلاثة فراغات، يقع الأول بعد السطور الأربعة الأولى، ويقع الثاني بعد سطرين شعريين، ويقع الثالث بعد سطرين آخرين . اما الطريقة الثانية التي كتبت بها قصيدة ادونيس هذا فلقد نشرت في كتاب»البنيات الأسلوبية في لغة الشعر العربي الحديث « للدكتور مصطفى السعدني، وقد كتبت على النحو التالي[27]
يجهل أنْ يتكلم هذا الكلام
يجهل صوت البراري
أنه كاهن حجري النعاس
أنه مثقل باللغات البعيدة
هو ذا يتقدم تحت السركام
في مناخ الحروف الجديدة
مانحا شعره للرياح الكئيبة
خشنا ساحرا كالنعاس
أنه لغة تتموج بين الصواري
أنه فارس الكلمات الغريبة
إنَّ ناشر هذا الكتاب قد أساء مرتين، مرة حين جعل الأسطر الشعرية متساوية وغير متموجة كما هي في أصل الديوان، ومرة حينما ألغى الفراغات البيضاء بين أسطر القصيدة، إضافة إلى خطأ طباعي فادح أفقد التحليل الذي عرضه مصطفى السعدني أهميته وجدواه إذ لا يتبين المتلقي ذلك إلا اذا امتلك فطنة اكتشاف الخطأ الطباعي، أو بعد العودة إلى ديوان الشاعر، ويكمن هذا الخطأ في قوله : خشناً ساحراً كالنعاس، وصوابه كالنحاس، . وأحسب أنَّ فضائي النصين مختلفان، وأود التوقف عند الفراغات البيضاء التي قسمت النص إلى عدة مقاطع:
المقطع الأول : السطور 1 ـ 4
المقطع الثاني : السطران 5 ـ 6
المقطع الثالث : السطران 7 ـ 10
فالمقطع الأول ينطوي على حديث عن الآخر، والأنا مختفية، وتحضر في المقطع الثاني الأنا مع الآخر، ثم حديث عن الآخر واختفاء الأنا، وهذه الفراغات توحي بالتمايز بين هذه المقاطع من ناحية، وتدفع المتلقي إلى التوقف بعد كل مقطع من ناحية ثانية، وللتوقف له دلالته وتأثيره على السواء .
إن التشكيل المكاني ـ كما تبين ـ أضحى دالا يحيل إلى النفس وانفعالاتها، ويعبر عن حالات التوتر الإبداعي، ولذلك يتكيء الشاعر جودت القزويني على الفراغ المنقط في مواطن عديدة من قصائده الشعربة للتعبير عن حالات التوتر، وليضفي دلالات مصاحبة للنص الشعري، يقول :
يا أبناء الدنيا،
فار ( التنور ) ... وجاء ( الطوفان )
» نوح « وسفينته ...
موج ملتطم بالصخر [28]
إن الفراغ المنقط يعبر عن حالة توتر الشاعر إزاء فعلي الفوران والمجيء ،إذ بينهما فسحة من الوقت تنبيء عن صمت بين مرحلتي البدء والانتهاء، هذا إذا عرفنا أن الشاعر لا يعبر في الحقيقة إلا عن طوفان ذاته :
ما كان» لنوح « طوفان يشبه ( طوفاني )
فإنا تغرقني ( ذاتي ) [29]
وقد يعبر الفراغ المنقط عن المسكوت عنه الذي يعمد المتلقي إلى استكماله بمخيلته، يقول جودت القزويني :
وأرى نوحا مبتسما
يبحر بمركبه ...
.... .... ..
... ... ...
يتوقف ذاك الطوفان
أقول له : أبت ..
أتوسل أن تتركني وحدي ...، ...، ...،
أبحث عن نفسي ...
عن سر » الله «...
... ....
... ...
... ...
ويلوح نوح بيديه ... [30]
إن الفراغات المنقطة تصبح موحيات تؤثر في المتلقي، وتأخذ الدلالات في التوالد والتناسل ،لا من فراغ، وإنما تتأثر بطبيعة السياقات، فحين يقول الشاعر :
أتوسل أن تتركني وحدي ...، ...، ...،
فإن المتلقي يستكمل الحديث، ويسهم في خلق النص في ضرورة البقاء منفردا ومتوحدا، ومن ثم فإن السابق واللاحق يوحيان بالدلالات المرافقة، إن المتلقي ـ هنا ـ يشارك الشاعر في عملية الإبداع، ويمتلك حرية أكبر في التأمل والتأويل، تماما، كما يشارك في التجربة الشعورية من ناحية، ويشارك بفاعلية بملء الفراغات المنقطة المقصودة بوعي من الشاعر من ناحية ثانية .
أما الحذف فإنَّ الشاعر يعمد إليه لتزويد المتلقي بدلالات يتم الإيحاء بها خلال فضاء القصيدة، ويعني الحذف إزالة بعض كلمة أو كلمة أو كلام، تقول فدوى طوفان :
مددت نحوهم يديْ
ناديت في حزني وفي نحيبي
يا أخوتي لا تقتلوا حبيبي
لا تقطعوا العنق الفتي
سألتكم بالحب، بالقربى سألتكم وبالحنان ،
يا أخوتي لا تقتلوه
لا تقتلوه
لا تقـــ..... [31]
أن الحذف أسهم ـ هنا ـ في إيحاء دلالة سرعة تنفيذ القتل، وإن صراخ الشاعر توقف مع لحظتي الحذف / القتل» لا تقـــ ..... « بمعنى أنَّ فعل القتل قد تم فعلاً، ومن ثم تقاطع الحذف مع لحظة القتل .
ومن أمثلة الحذف التي تشتمل على دلالات جمالية قصيدة» نهاية « لبدر شاكر السياب، إذ قالت له فتاته «سأهواك حتى تجف الأدمع في عيني وتنهار أضلعي الواهية « إنَّ الشاعر يعمد إلى تكرار العبارة التي قالتها فتاته، ولكنه في أثناء ذلك يعمد إلى حذف بعضها، مما يغّير‘ من دلالاتها وجمالياتها، غير أنَّ هذه العبارة المكررة تأخذ في الضمور والتناقص التدريجي، وتضمر معها دلالتها الأصلية لتصل درجة النقيض، وتكتنف هذه العبارة وحالاتها المتعددة الموقف النفسي الذي يعيشه الشاعر، ويمكن تقسيم هذا إلى عدة مراحل[32]
1 ـ» سأهواك حتى .. « نداء بعيد
تلاشت ؛ على قهقهات الزمان
بقاياه . في ظلمة .. في مكان ،
إنَّ الشاعر يسترجع هذه العبارة بوصفها نداء بعيداً، تكتنفه حالة الضياع والتلاشي المفعمة بالسخرية والعتمة .
2 ـ وظل الصدى في خيالي يعيد :
» سأهواك حتى سأهوى « نواح
كما أعوت في الظلام الرياح،
» سأهواك حتى .. ســ .. « ياللصدى
ويتكيء السياب ـ هنا ـ على توظيف العبارة بوصفها صدى يتكرر، ويوظف ظاهرة الصدى التي تقتطع ـ بحسب تكررها واعادتها ـ بعضاً من العبارة، فان عبارة»سأهواك حتى سأهواك « تدل على تكرار الفعل أهوى، أي سأهواك، وأهوى غيرك أيضاً، غير أنَّ هواك سيظل قائماً ما دام الحب الثاني لما يأتي بعد . أما عبارة» سأهواك حتى .. ســ .. « فإنها تدل على ظاهرة التردد التي أوحت بها ظاهرة الصدى التي تقطّع العبارة المحكية .
3 ـ اصيخي إلى الساعة الغائبة :
» سأهواك حتى .. « بقايا رنين
تحدين دقاتها العاتيه،
تحدين حتى الغدا ،
» سأهواك « ما أكذب العاشقين !
» سأهوا .. « ـ نعم .. تصدقين .
وينتقل بهذا السياب من حالة الصدى التي تقتطع الأجزاء إلى حوار مع فتاته، او مع عبارة فتاته، وهو حوار يتأسس على الحذف، ويصدر أحكاماً في ذلك . إن هناك تناغماً بين الحذوف المتكررة في العبارة والحالة الشعورية للشاعر، أي من الوصف إلى التردد إلى الحوار الذي يحدد فيه موقفه من فتاته بشكل نهائي .
ومن الجدير بالذكر أنَّ ممدوح عدوان يتعامل بكيفية معينة مع الحذف، يقول :
حينما صحت بهم :
» لا تبدلوا بالحرب أخبار الحروب «
قيل لي :
» إنَّ لم تجد ماءً تيمم «
قلت :» مولاي تطلع نحوهم «
لم يتكلم
قلت :» مولاي أما قلت لنا : إن الجهاد ... «
قطع الحاجب بالسيف النداء
و» علي « صامت لا يتكلم
حمل الحاجب صوتي في إناء
و» علي « صامت لا يتكلم
ولذا أعطيت سيفي لابن ملجم [33]
ويشتمل هذا النص على حذف دل عليه قطع العبارة المعروفه للامام علي:» إنَّ الجهاد باب من أبواب الجنة « ولهذا الحذف المقطوع دلالته، لأنَّ سياق القصيدة ينطوي على دلالة مرافقة تتوافق فيها حالة قطع العبارة من ناحية، وقطع رقبة الشاعر الذي يكررها، من ناحية أخرى، وكأن الشاعر يعبر من خلال الحذف ـ زمانياً ومكانياً ـ عن محاكاة لحظة القطع التي أدّاها السيّاف، وهي تتناغم تماماً مع قطع العبارة نفسها .
إنَّ الحذف ـ هنا ـ أدى دلالات فنية وجمالية، أضفت على النص دلالات مصاحبة ما كان للنص أن يعبر عنها إلا بهذه الكيفية من الحذف .
ومن أمثلة الحذف المبكرة في قصيدة» الوصية « لبدر شاكر السياب، حيث يقول :
إقبال، يازوجتي الحبيبه
لا تعذليني ما المنايا بيدي
ولست‘، ولو نجوت‘، بالمخلّدِ .
كوني لغيلان رضى وطيبه
كوني له أباً وأماً وارحمي نحيبه
وعلميه أنْ يذيلَ الَقلبَ لليتيم والفقير
وعلميه ...
ظلمة النعاس
أهدابها تمس من عيوني الغريبة [34]
أي أنَّ السياب لم يكمل وصيته، صحيح ان سياق النص يجعل المتلقي يستكمل هذه الوصية، بمعنى انَّ أثر الحذف الدلالي والجمالي عميق الأثر في المتلقي، وكأنه يسهم في ابداع النص ويستكمل بعض مكوناته .
وإذا كان الحذف يعني أن الشاعر يحذف بعض كلمة أو عبارة، ليدل بذلك على معنى مصاحب إيقاعيا ومكانيا، فإن التقطيع أو التشذير » تمزيق لأوصال الكلمة أو العبارة أو الصورة، وتفكيك لوحدتها الواحدة، بحيث تبدو كل جزئية منها ذات كيان مستقل معزول عن نظيره، رغم اتصاله السياقي به « [35]
ويتجلى التقطيع جليا في قصيدة « الصدى والكلمات » للشاعر جودت القزويني، إذ يعمد إلى تقطيع الكلمة للإيحاء بدلالات مصاحبة تؤكد الصدى ـ ماديا ونفسيا ـ الذي يعبر عنه الشاعر، وتتبدى ملامح التوتر الدرامي القائم على جمل فعلية متلاحقة :
أمشي ...
تبحر ساقي ..
يضحك مني الظل
تتنـزى فوق جبيني أفكار العتمة [36]
وتتجلى ملامح التصدية وتقطيع الكلمات كي تتناغم مع طبيعة التوتر الدرامي :
وأصرخ .. يآ .. نجمَ .. ة .. الأمسـ سِ
إني أصفِّقُ .. أُصَ .. فْ .. فِ .. ق .. و ..
تعالي فقدضاع صوتي [37]
ويصل الأمر ذروته في حالة تتماثل فيها تشظية الكلمة مع تشظي الصدى، وتشظية العالم الداخلي للشاعر ،يقول جودت القزويني :
وعاد الصدى
الصدى .. صدا .. صدا .. دآ .. دآ ,, دآ .. آ آ آ آ آ آ آ آ آ آ آ آ آ آآآ آ آ آ آ آ آ
لقد ذبل العمر
واحترقت نجمتي في السماء !
إن تشظية الصدى ـ هنا ـ تعبير يتوافق فيه التشكيل الإيقاعي والمكاني للكلمات، حتى تتلاشى صوتيا وكتابيا، تماما، كما يتلاشى عمر الشاعر في الذبول والضمور، وتحترق نجمته ي السماء !
ومثل هذا ما كتبه سعدي يوسف عن مدينة الكوفة التي يغادرها :
لكن القرن الأول لم يعد الأول
ها نحن أولاء نغادرها
م
ش
ن
و
ق
ي
ن
على ماسورات مدافع دبابات .. [38]
إذ يوحي تناثر الكلمة وتشظيها بتساقط المشنوقين وتتابعهم، وبتكرار فعل التشظية، تماما كما تتساقط خرزات المسبحة، كما أن هذه الكلمة تتدلى « رأسيا كحبل المشنقة تماما»[39].
مصادر البحث ومراجعه :
أدونيس، الآثار الكاملة، دار العودة ، بيروت ، 1971 .
بدر شاكر السياب، ديوانه ، دار العودة ، بيروت ، 1971 .
جودت القزويني، المجموعة الشعرية الأولى، بيروت ، 1998 .
دافيد لوبتون، انتروبولجيا الجسد والحداثة، ترجمة محمد عرب صاصيلا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت ،1993 .
رضا بن حميد، الخطاب الشعري الحديث من اللغوي إلى التشكيل البصري، مجلة فصول، العدد : 2 صيف 1996.
صلاح عبد الصبور، أحلام الفارس القديم، دار الشروق ، بيروت ، 1986 .
عبد العزيز المقالح ، الشعر بين الرؤيا والتشكيل ، دار العودة بيروت ، 1981 .
قدوى طوقان، الأعمال الشعرية الكاملة، المؤسسة العربية للنشر ، بيروت ، 1993 .
كريم الوائلي، الخطاب النقدي عند المعتزلة، مصر العربية للنشر ، القاهرة، 1997 .
محمد بنيس ، ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب، مقاربة بنيوية، دار العودة ، بيروت ، 1991 .
محمد تقي جمال الدين، نوارس الشجن، دار بغداد للطباعة ، كوبنهاكن ، 1991 .
محمد الماكري ، الشكل والخطاب ، مدخل لتحليل ظاهراتي ، المركز الثقافي ، بيروت ، 1991 .
مصطفى السعدني، البنيات الاسلوبية في لغة الشعر العربي الحديث ، منشأة المعارف ، الاسكندرية ، د.ت .
مصطفى السعدني، التغريب في الشعر العربي المعاصر، منشأة المعارف ، الاسكندرية ، د.ت .
نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، دار العلم للملايين ، بيروت ، 1983 م.
نقلا عن رجاء عيد، لغة الشعر قراءة في الشعر العربي الحديث ، منشأة المعارف ، الاسكندرية ، د.ت
وليد منير، التجريب في القصيدة المعاصرة، مجلة فصول، العدد الأول، صيف 1997 ص 181
ويليك » رينيه « بالاشتراك مع » اوستن وارين « : نظرية الأدب ، ترجمة محي الدين صبحي ، مراجعة حسام الخطيب ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 1981
يوري لوتمان، تحليل النص الأدبي ،ترجمة محمد أحمد فتوح، دار المعارف، مصر، 1995.
[1] يوري لوتمان، تحليل النص الأدبي ،ترجمة محمد أحمد فتوح، دار المعارف، مصر، 1995، ص 27
[2] نفسه، ص 109 .
[3] عبد العزيز المقالح ، الشعر بين الرؤيا والتشكيل ،ص 111 .
[4] نفسه.
[5] نفسه ، ص 114 .
[6] محمد الماكري، الشكل والخطاب ص137 .
[7] كريم الوائلي، الخطاب النقدي عند المعتزلة، ص 120 .
[8] نفسه .
[9] نفسه، ص 139 .
[10] رينيه ويليك، نظرية الأدب، ص 151 152 .
[11] محمد الماكري، الشكل والخطاب، ص 133 .
[12]دافيد لوبتون، انتروبولجيا الجسد والحداثة، ترجمة محمد عرب صاصيلا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت ،1993، ص 151 .
[13] رينيه ويليك، نظرية الأدب، ص 150 .
[14] نفسه .
[15] رضا بن حميد، الخطاب الشعري الحديث من اللغوي إلى التشكيل البصري، مجلة فصول، العدد : 2 صيف 1996، ص 99 .
[16] نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، ص 162 163 .
[17] نفسه، ص 166.
[18] صلاح عبد الصبور، أحلام الفارس القديم، ص 35 .
[19] مصطفى السعدني، التغريب في الشعر العربي المعاصر، ص 35 .
[20] فدوى طوقان، الأعمال الشعرية الكاملة، ص 352 453 .
[21] بدر شاكر السياب، ديوانه ،ص 321 .
[22] محمد تقي جمال الدين، نوارس الشجن، ص 28 29 .
[23] رضا بن حميد، الخطاب الشعري الحديث ... ص 100 .
[24] محمد بنيس ، ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب، ص 101 .
[25] نفسه، ص 102 .
[26] أدونيس، الآثار الكاملة، 1 /341 .
[27] مصطفى السعدني، البنيات الاسلوبية في لغة الشعر العربي الحديث ،ص 19 .
[28]جودت القزويني، المجموعة الشعرية الأولى، 1998، ص 200 .
[29]نفسه، 201 .
[30] نفسه، ص 200 .
[31] قدوى طوقان، الأعمال الشعرية الكاملة، ص 463 .
[32] بدر شاكر السياب، ديوانه، ص 89 90 .
[33] نقلا عن رجاء عيد، لغة الشعر قراءة في الشعر العربي الحديث ن ص 230 .
[34] بدر شاكر السياب، ديوانه، ص 221 222 .
[35] وليد منير، التجريب في القصيدة المعاصرة، مجلة فصول، العدد الأول، صيف 1997 ص 181
[36] جودت القزويني، المجموعة الشعرية الأولى، ص272 .
[37] نقسه، ص 273 ـ 274 .
[38] نفسه .
[39] نفسه .